دفن النائب الوحدة مع سوريا باغتيال دعاتها
أثارت في نفسي مقالة الزميل الصحفي السوري (جان اليكسان) المنشورة في صحيفة «الشرق الأوسط» عدد يوم 2003/5/26، الكثير من شجون وهموم الماضي، وأتوقع ان صحف وقنوات الإعلام في العراق والعالم العربي ستحتاج في الفترة المقبلة ولسنوات غير قليلة، فتح ملفات وملاحق كثيرة تتكشف من خلالها أسرار الصفحات السياسية والأمنية لصدام حسين وعصابته ضد معارضيه في حزب البعث أو الأحزاب والحركات السياسية الأخرى، وضدّ المواطنين خدمة لسلطته وزعامته الفردية الدكتاتورية. فقد نشرت ما بين يناير (كانون الثاني) 1991 وابريل (نيسان) 2003 قصص محدودة لا تحمل أسراراً بقدر ما كانت تمثل انطباعات لتجارب شخصية شجاعة لمعارضين كانوا جزءاً من نظام صدام تحملوا عقبات تلك المعارضة، ويتوقع للشهادات الجديدة أن تكون إثارتها أكثر مما تتركه الهياكل العظمية الصامتة التي يزاح عنها اليوم تراب الآلام الحزينة، وتحمل قصصاً تتجاوز أساطير الدكتاتوريات العالمية. لقد أعادت مقالة الزميل الصحفي للذاكرة حديث الوحدة السورية ـ العراقية المغتالة، التي ظلت طي الكتمان، ولا ندري أسباب عدم كشفها من قبل الاخوة السوريين لحد اللحظة، وقد يكون الظرف الحالي مناسباً لكشف ملابساتها، حين أعدم صدام على مذبحها ثلثي اعضاء القيادة البعثية، وكانت تلك المجزرة شاهداً على اغتيال صدام حسين للديمقراطية داخل حزب البعث باغتيال دعاتها، لكونها كانت تعيق تفرده بالسلطة من دون رقيب.
لقد سبق لي المشاركة في قيادة الوفد الحزبي والشعبي العراقي الذي زار دمشق، في أوائل أبريل عام 79، تنفيذاً لقرار مشترك بين القيادتين السورية والعراقية بهدف استطلاع أجواء التقارب بين الكوادر الرسمية والبعثية، ومعرفة استعداد المواطنين لقبول الوحدة بين البلدين تمهيداً للوصول إلى قرار الاتفاق حولها وإعلانها.
وقد حل وفدنا الحزبي والشعبي في دمشق مرحّباً به من قبل (الرفاق) السوريين الحالمين بذلك الهدف القومي النبيل، ولم نكن نحن في العراق، ولا حتى من قابلونا، يعلمون نوايا القيادتين السورية والعراقية.
قضينا ثلاثة أيام في دمشق، اكتشفنا خلالها نحن المثقفين السوريين والعراقيين في لقاءات مفتوحة في مقاهيها ونواديها ومطاعمها، صدق المشاعر العروبية لدى أبناء سوريا، وكان أمل الجميع إنجاز ذلك الهدف التاريخي خلال أيام. لكن الصدمة التي صعقنا بها بعد عودتنا من الزيارة ولقائنا مع (النائب صدام حسين)، حين طلب من كل واحد منا الحديث عن انطباعاته حول توجهات (الرفاق السوريين) تجاه تحقيق ميثاق الوحدة الثنائية. وقد تحدثت عن انطباعاتي حول صدق النوايا السورية، وكانت عيون (السيد النائب) تحوم لاستثارة من يعطي انطباعاً مغايراً يعزز التوجه الذي كان يخفيه أمامنا قبل ذهابنا إلى دمشق، فعقب مسؤول أحد المنظمات الشعبية، حينذاك، بانطباع كان غريباً وغير واقعي بالنسبة لي ولغيري من المشاركين بالوفد، ولم نكن نعلم انه كان مبيتاً، فقال بحماسة مصطنعة (الرفيق النائب: السوريون لا يريدون الوحدة مع العراق، ولذلك أرى التوقف عن مواصلة الحوار). ابتسم صدام، وقال: «هذه هي الحقيقة، لكن بعض الرفاق حالمون ولا يعرفون ما يريده «حافظ أسد». وكان دائماً ما يطلق اسم الرئيس السوري الراحل من دون (أل التعريف)». وتصادف انه بعد عدة ايام من ذلك الحدث، شاركت في اجتماع لمكتب الثقافة والإعلام الذي حرص صدام حسين على إدارة اجتماعاته والاشراف الشخصي المباشر على جميع الأنشطة الثقافية، بعد عزل وسجن مسؤوله السابق عضو القيادة القومية عبد الخالق السامرائي، وحرص على متابعة جميع المقالات التي يكتبها (أعضاء المكتب ومشاركوه) لجريدة الحزب الداخلية، وأُبعدوا بعد ذلك جميعاً من هذا النشاط. وتصادف ان كتبت مقالة فكرية سياسية حول (أسبقية الوحدة على الاشتراكية)، وبعد حديثه في مقدمة الجلسة عن تطورات مباحثات الوحدة السورية العراقية، وشكوكه في صدقية واندفاع (الرئيس الراحل حافظ الأسد) انتقل إلى الموضوع الثقافي فقال «أثارني مقال للرفيق ماجد يحلم فيه بتحقيق الوحدة العربية قبل الاشتراكية، ويتجاهل فيه خطواتنا الاشتراكية ودورنا القائد في بنائها، وأريد منه أن يقنعنا بوجهة نظره هذه..». قال هذا التعقيب، وفي عينيه علامات تشير إلى ما كنت أنا وغيري من الحاضرين يعرفون ما يقصده حين يريد إسقاط أيّة فكرة مخالفة لرأيه، ولا تعزز زعامته الفردية، وإسقاط صاحبها بعد ذلك. وبعد سماعه المبرمج لبعض الآراء التي تعلمت فن مجاراة توجهاته داخل الاجتماعات القيادية لدرجة توجيه اتهامات تودي بصاحبها إلى السجن أو الموت. أصابني ذعر وقلق شديد على ما يمكن أن يصيبني بعد ذلك الاجتماع، علماً بأنني طرحت فكرة قومية شائعة في ذلك الوقت، وبعد عودتي إلى مكتبي في العمل بساعات، تلقيت مكالمة هاتفية من مرافقه الشخصي (صباح مرزا) يطلب مني إعادة صياغة حديث (سيادته) الذي سيصلني، ليتحول إلى كراس يوزع على الحزبيين ثم يطبع وينشر، وفي مقدمته تلميحات حول فكرتي المقصودة، وتلك كانت نوعاً من العقوبة المهذبة التي ارتضيتها، وقد طبع الكراس ونشر تحت عنوان (هل يمكن تطبيق الاشتراكية في بلد واحد ؟). ثم حذرني (طارق عزيز) في لقاء معه بعد أيام، بضرورة التوقف عن طرح مثل هذه الأفكار داخل الحزب، أو في وسائل الإعلام، حيث ذكرني بمصير عبد الخالق السامرائي الذي كنت أعمل معه في المكتب الثقافي قبل اعتقاله بتهمة التآمر على صدام حسين، وقال (ألم تتعظ من تلك التجربة؟). ولم تمر أيام حتى صدر قرار بتعييني سفيراً للعراق في ليبيا. وقد يتصور البعض إن تلك كانت مكافأة، لكن الواقع السياسي يقول خلاف ذلك، حيث تم وبوقت مبكر تنفيذ سياسة مبرمجة تستهدف إبعاد الكوادر البعثية عن دوائر التأثير، أو البطش بهم، حين تعرف توجهاتهم الديمقراطية داخل الحزب، أو سعيهم لتحقيق سياسة الحوار والانفتاح مع القوى والأحزاب الوطنية العراقية، وكان الهدف من كل ذلك هو تأمين سلامة مخطط انفراد صدام حسين وعصابته بالحكم.
* سفير عراقي سابق
أثارت في نفسي مقالة الزميل الصحفي السوري (جان اليكسان) المنشورة في صحيفة «الشرق الأوسط» عدد يوم 2003/5/26، الكثير من شجون وهموم الماضي، وأتوقع ان صحف وقنوات الإعلام في العراق والعالم العربي ستحتاج في الفترة المقبلة ولسنوات غير قليلة، فتح ملفات وملاحق كثيرة تتكشف من خلالها أسرار الصفحات السياسية والأمنية لصدام حسين وعصابته ضد معارضيه في حزب البعث أو الأحزاب والحركات السياسية الأخرى، وضدّ المواطنين خدمة لسلطته وزعامته الفردية الدكتاتورية. فقد نشرت ما بين يناير (كانون الثاني) 1991 وابريل (نيسان) 2003 قصص محدودة لا تحمل أسراراً بقدر ما كانت تمثل انطباعات لتجارب شخصية شجاعة لمعارضين كانوا جزءاً من نظام صدام تحملوا عقبات تلك المعارضة، ويتوقع للشهادات الجديدة أن تكون إثارتها أكثر مما تتركه الهياكل العظمية الصامتة التي يزاح عنها اليوم تراب الآلام الحزينة، وتحمل قصصاً تتجاوز أساطير الدكتاتوريات العالمية. لقد أعادت مقالة الزميل الصحفي للذاكرة حديث الوحدة السورية ـ العراقية المغتالة، التي ظلت طي الكتمان، ولا ندري أسباب عدم كشفها من قبل الاخوة السوريين لحد اللحظة، وقد يكون الظرف الحالي مناسباً لكشف ملابساتها، حين أعدم صدام على مذبحها ثلثي اعضاء القيادة البعثية، وكانت تلك المجزرة شاهداً على اغتيال صدام حسين للديمقراطية داخل حزب البعث باغتيال دعاتها، لكونها كانت تعيق تفرده بالسلطة من دون رقيب.
لقد سبق لي المشاركة في قيادة الوفد الحزبي والشعبي العراقي الذي زار دمشق، في أوائل أبريل عام 79، تنفيذاً لقرار مشترك بين القيادتين السورية والعراقية بهدف استطلاع أجواء التقارب بين الكوادر الرسمية والبعثية، ومعرفة استعداد المواطنين لقبول الوحدة بين البلدين تمهيداً للوصول إلى قرار الاتفاق حولها وإعلانها.
وقد حل وفدنا الحزبي والشعبي في دمشق مرحّباً به من قبل (الرفاق) السوريين الحالمين بذلك الهدف القومي النبيل، ولم نكن نحن في العراق، ولا حتى من قابلونا، يعلمون نوايا القيادتين السورية والعراقية.
قضينا ثلاثة أيام في دمشق، اكتشفنا خلالها نحن المثقفين السوريين والعراقيين في لقاءات مفتوحة في مقاهيها ونواديها ومطاعمها، صدق المشاعر العروبية لدى أبناء سوريا، وكان أمل الجميع إنجاز ذلك الهدف التاريخي خلال أيام. لكن الصدمة التي صعقنا بها بعد عودتنا من الزيارة ولقائنا مع (النائب صدام حسين)، حين طلب من كل واحد منا الحديث عن انطباعاته حول توجهات (الرفاق السوريين) تجاه تحقيق ميثاق الوحدة الثنائية. وقد تحدثت عن انطباعاتي حول صدق النوايا السورية، وكانت عيون (السيد النائب) تحوم لاستثارة من يعطي انطباعاً مغايراً يعزز التوجه الذي كان يخفيه أمامنا قبل ذهابنا إلى دمشق، فعقب مسؤول أحد المنظمات الشعبية، حينذاك، بانطباع كان غريباً وغير واقعي بالنسبة لي ولغيري من المشاركين بالوفد، ولم نكن نعلم انه كان مبيتاً، فقال بحماسة مصطنعة (الرفيق النائب: السوريون لا يريدون الوحدة مع العراق، ولذلك أرى التوقف عن مواصلة الحوار). ابتسم صدام، وقال: «هذه هي الحقيقة، لكن بعض الرفاق حالمون ولا يعرفون ما يريده «حافظ أسد». وكان دائماً ما يطلق اسم الرئيس السوري الراحل من دون (أل التعريف)». وتصادف انه بعد عدة ايام من ذلك الحدث، شاركت في اجتماع لمكتب الثقافة والإعلام الذي حرص صدام حسين على إدارة اجتماعاته والاشراف الشخصي المباشر على جميع الأنشطة الثقافية، بعد عزل وسجن مسؤوله السابق عضو القيادة القومية عبد الخالق السامرائي، وحرص على متابعة جميع المقالات التي يكتبها (أعضاء المكتب ومشاركوه) لجريدة الحزب الداخلية، وأُبعدوا بعد ذلك جميعاً من هذا النشاط. وتصادف ان كتبت مقالة فكرية سياسية حول (أسبقية الوحدة على الاشتراكية)، وبعد حديثه في مقدمة الجلسة عن تطورات مباحثات الوحدة السورية العراقية، وشكوكه في صدقية واندفاع (الرئيس الراحل حافظ الأسد) انتقل إلى الموضوع الثقافي فقال «أثارني مقال للرفيق ماجد يحلم فيه بتحقيق الوحدة العربية قبل الاشتراكية، ويتجاهل فيه خطواتنا الاشتراكية ودورنا القائد في بنائها، وأريد منه أن يقنعنا بوجهة نظره هذه..». قال هذا التعقيب، وفي عينيه علامات تشير إلى ما كنت أنا وغيري من الحاضرين يعرفون ما يقصده حين يريد إسقاط أيّة فكرة مخالفة لرأيه، ولا تعزز زعامته الفردية، وإسقاط صاحبها بعد ذلك. وبعد سماعه المبرمج لبعض الآراء التي تعلمت فن مجاراة توجهاته داخل الاجتماعات القيادية لدرجة توجيه اتهامات تودي بصاحبها إلى السجن أو الموت. أصابني ذعر وقلق شديد على ما يمكن أن يصيبني بعد ذلك الاجتماع، علماً بأنني طرحت فكرة قومية شائعة في ذلك الوقت، وبعد عودتي إلى مكتبي في العمل بساعات، تلقيت مكالمة هاتفية من مرافقه الشخصي (صباح مرزا) يطلب مني إعادة صياغة حديث (سيادته) الذي سيصلني، ليتحول إلى كراس يوزع على الحزبيين ثم يطبع وينشر، وفي مقدمته تلميحات حول فكرتي المقصودة، وتلك كانت نوعاً من العقوبة المهذبة التي ارتضيتها، وقد طبع الكراس ونشر تحت عنوان (هل يمكن تطبيق الاشتراكية في بلد واحد ؟). ثم حذرني (طارق عزيز) في لقاء معه بعد أيام، بضرورة التوقف عن طرح مثل هذه الأفكار داخل الحزب، أو في وسائل الإعلام، حيث ذكرني بمصير عبد الخالق السامرائي الذي كنت أعمل معه في المكتب الثقافي قبل اعتقاله بتهمة التآمر على صدام حسين، وقال (ألم تتعظ من تلك التجربة؟). ولم تمر أيام حتى صدر قرار بتعييني سفيراً للعراق في ليبيا. وقد يتصور البعض إن تلك كانت مكافأة، لكن الواقع السياسي يقول خلاف ذلك، حيث تم وبوقت مبكر تنفيذ سياسة مبرمجة تستهدف إبعاد الكوادر البعثية عن دوائر التأثير، أو البطش بهم، حين تعرف توجهاتهم الديمقراطية داخل الحزب، أو سعيهم لتحقيق سياسة الحوار والانفتاح مع القوى والأحزاب الوطنية العراقية، وكان الهدف من كل ذلك هو تأمين سلامة مخطط انفراد صدام حسين وعصابته بالحكم.
* سفير عراقي سابق