"أن هؤلاء الذين يقومون اليوم باعمال التخريب والانقسام في الشمال يكررون ذات اللعبة والخطأ الجسيم بل ذات الخيانة ومع ذات اللاعبين وان تغيرت بعض الوجوه وبعض الأسماء..واذا استمروا فيها فسيكون مصيرهم لا محال كمصير الذين سبقهم".
من خطاب لصدام حسين يوم ١٥/ ٣ /١٩٩١
اندلعت الانتفاضة في كردستان العراق بعد أيام قليلة من اندلاعها في محافظات جنوب العراق ، وهي وإن كانت في جانب منها قد تميزت بعفويتها لكن اختلافها الرئيس عن الانتفاضة في الجنوب هو مساهمة أفواج الدفاع الوطني " الجحوش" فيها ، حيث انقلب أعداد كثيرة منهم على السلطة وساهموا في أشعال الانتفاضة,واختلافها الثاني هو دخول تنظيمات الأحزاب الكردية الى المنطقة الشمالية ومساهمتهم في ديمومة الأنتفاضة واشعالها في بعض المناطق كاشعالها في مدينة كركوك. هذا الجزء مخصص لتوثيق الانتفاضة في كردستان لكن لابد من ذكر أن من الوثائق التي راجعتها كانت للأسف قليلة لذلك أن عرض رواية السلطة للحدث سيكون محدوداً.
الانتفاضة في رانيةكذلك ورد في أحدى مقالات جريدة الثورة " ماحصل في اواخر عام ١٩٩٠ وهذه الأشهر من عام ١٩٩١" " بلغ عددهم الذين قتلوا في مدينة السليمانية وحدها ٣٧٠ ضحية دفنوا في ثلاثة قبور جماعية، قد مثل بهم فبعضهم قد حرق بعد أن مثل به وهو حي، وبعضهم قد قطعت أطرافه وهو حي حتى مات، وجميعهم كما نقل الى الرفيق نائب رئيس مجلس
قيادة الثورة من مسؤولين شهود عيان في نفس المحافظة ومواطنين اكراد من نفس المدينة، نقول وجميعهم ونعني بذلك كل الثلاث مئة وسبعين ضحية قد قلعت عيونهم وجدعت أنوفهم واذانهم."
وصلت طلائع الجماهير المنتفضة إلى مشارف مدينة أربيل وبالذات الى المجمعات السكنية في دارتو، وبيرزين، شاويس، بنصلاوه، ومع فجر يوم ١١ آذار١٩٩١ بدأ زحفها على المدينة المذكورة مستهدفة الدوائر الحكومية الكثيرة المتواجدة فيها باعتبارها عاصمة الحكم الذاتي الذي أقرته الحكومة العراقية في كردستان عام ١٩٧٤ حيث وجدت فيها هيئات المجلس التنفيذي والتشريعي وكذلك كانت مقرا للفيلق الخامس وفيها مديرية أمن منطقة الحكم الذاتي ومديرية استخبارات المنطقة الشمالية.
قبل انتصاف ظهيرة يوم ١١ آذار ١٩٩١ كانت النشاطات والفعاليات قد انتهت بعد هروب واستسلام كافة منتسبي الأمن والشرطة في المحافظة دون قتال يذكر والجهة الأمنية الوحيدة التي قاتلت هي منظومة استخبارات المنطقة الشمالية، حيث استمر منتسبوها في القتال لغاية الساعة الرابعة عصر اليوم المذكور والذين كان عددهم يربو على السبعين فرداً، حيث لم ينجو أحد منهم.
معظم مسؤولي المحافظة الموجودين في مقر الفيلق الخامس وأتذكر اسماء بعضهم:
لا بد أن أشير هنا الى ان معظم مقاتلي أفواج الدفاع الوطني مع مستشاريهم التحقوا بالبيشمركة والجماهير المنتفضة وقامت الحكومة العراقية على أثر ذلك بإصدار قرار بحل هذه الأفواج، كما وأود أن أشير لاسيما ونحن نتحدث عن سقوط مدينة أربيل في ذلك اليوم إلى قيام السلطات العسكرية في هذه المدينة أسوة بالمحافظات الأخرى وعلى ضوء قرارات مركزية باتخاذ بنايات المدارس الحكومية داخل المدينة مقرات ومواقع للمدفعية المضادة للطائرات لغرض التمويه وإخفاء هذه المواقع والأسلحة وقد تسبب ذلك في خلق حالة من الخوف والقلق لدى المواطنين وعوائلهم الذين تقع مساكنهم بالقرب من هذه المدارس واحتمال تعرضهم لقصف الطائرات المغيرة على المدينة بالإضافة الى استشهاد وإصابة الكثير من المواطنين عند قيام المضادات الجوية بإطلاق نيرانها على طائرات التحالف المغيرة دون أن تؤثر عليها وتساقط رصاص هذه المضادات على المدينة وعلى المواطنين الذين يكونون خارج مساكنهم وفي العراء.
نتيجة متابعتي للأوضاع وتحليلي للأحداث توصلت الى قناعة كاملة بأن المحافظة ساقطة لا محالة وكنت وبحكم مسؤوليتي، حيث كنت برتبة عقيد وأشغل منصب نائب مدير شرطة محافظة أربيل حيث انشغلت عصر يوم ١٠ آذار ١٩٩١ في القيام بجولة على أقسام ومراكز الشرطة داخل المدينة وتوضيح رؤيتي لما ستؤول اليه نتائج الاحداث المرتقبة لمنتسبي الشرطة الموجودين بكثافة بسبب فرض حالة الانذار عليهم وكنت احثهم على ضرورة المحافظة على حياتهم وعدم التفريط بها في مجابهة خاسرة مع حشود الجماهير المنتفضة، قبل عودتي الى الدائرة قمت مع زملائي الضباط وهم كل من (الرائد عبد الله محمد سعيد والنقيب شيرزاد نوري طالب) باختيار دار أحد الاصدقاء القريبة من مبنى مديرية الشرطة للاستفادة منه كمحط أولي عند ترك الدائرة وبعد الاتصال بصاحب الدار والذي كان صديقاً لنا والاتفاق معه على اشارة الدخول عنده في الدار وهي (الطرق على الباب لثلاث مرات) وقد أبلغت أقاربي عن هذا المكان ليكونوا على علم بمحل وجودي عند بدء الأحداث. عدت الى الدائرة بحدود الساعة السابعة مساء وجلس جميع الضباط المتواجدين في الدائرة معي في غرفتي وكنا نتابع الأخبار من الاذاعات العالمية والتي كانت أخبارها في معظمها يتعلق بأوضاع العراق وأحداثه المثيرة في سقوط محافظاته الواحدة تلو الأخرى في الجنوب والشمال باستثناء عدد قليل من المحافظات التي لم تحصل فيها حركة مضادة للسلطة من قبل سكانها محسوبي الولاء للنظام السابق بسبب كونهم من مكون واحد (العرب السنة) وأطلق عليها النظام المذكور تسمية (المحافظات البيضاء) وهي: بغداد (العاصمة)، صلاح الدين (تكريت)، ونينوى (الموصل)، والأنبار، وديالى، بالإضافة الى المصدر المذكور للأخبار كانت تردنا معلومات عن الوضع الأمني وحركة الجماهير عن طريق الهاتف من المعارف والأصدقاء والأقارب، كانت لدينا معلومات وفكرة واضحة عن المتغيرات والنتائج المرتقبة خلال ساعات قادمة، في تلك الليلة كان سكان مدينة أربيل قد التزموا مساكنهم وهم في ترقب والاستعداد للتعامل مع مستجدات الأوضاع فيها حيث كان معظمهم يتشوق لامتداد الانتفاضة اليها وتحريرها من سيطرة السلطة العراقية، والذين كان منتسبوها يستعدون للقتال ومعهم عدد قليل من سكان المدينة المنتمين لتنظيمات حزب البعث والمتعاونين مع الاجهزة الأمنية وفي نفس الوقت كان الكثير منهم يفكر في الهروب والنجاة بنفسه من المصير الخطر المحدق به في اللحظة الحاسمة.وهنا أود الإشارة أن أغلب الذين قتلوا في أحداث محافظة أربيل من منتسبي الأجهزة الأمنية والحزبية والمحسوبين عليها كان بسبب عدم قراءتهم للأحداث بشكل صحيح وعدم استيعابهم لنتائجها وما سيتمخض عنه من قوة حشد جماهيرية كبيرة تخرج عن امكانيات أجهزة السلطة العسكرية والأمنية والحزبية في مجابهتها والوقوف في وجهها ومن أن الأوضاع ستخرج عن سيطرة الدولة، كما وأنني أجزم صادقا بعدم اشتراط كون القتلى في هذه الأحداث من رجال السلطة والحزبيين السيئين بل كانوا من الذين تنقصهم الرؤية الحقيقية عن مجريات الأحداث ونتائجها أو الذين اختاروا الهروب من مسرح الأحداث في الوقت الخطأ وبعد فوات الأوان وهذا ما كنت أخطط له مع زملائي الضباط في مقر مديرية الشرطة في تلك الليلة في أن نترك المكان في الوقت الصحيح المناسب وقبل وصول الموجات البشرية الينا، حيث بوصولها لا يمكننا ترك المكان ونكون أمام خيارين أحلاهما مر فالخيار الأول هو القتال ونتيجته قتل عدد من المواطنين وقتلنا جميعا المتواجدين في البناية، والخيار الثاني هو الاستسلام والذي لم تكن عواقبه آمنه وليست بأفضل من الخيار الأول.الملاحظة الجديرة بالذكر في أن عدد القتلى من أجهزة سلطة النظام والمحسوبين عليه كان مرتبطاً بالناحية الزمانية والمكانية من هذه الاحداث، فلو نظرنا الى عدد القتلى في محافظة السليمانية لوجدناه أكثر من عددهم في محافظة أربيل والأخيرة أكثر منها في محافظة دهوك بسبب أن مسؤولي المحافظة الأولى لم يكونوا مستوعبين لفكرة سقوط المحافظة بهذا الشكل وبهذه السرعة وكذلك لم يكونوا قد فكروا في الهروب والنجاة بأنفسهم من المصير الأسود الذي واجهوه.مسؤولي محافظة أربيل أخذوا العبرة مما حصل في المحافظة المذكورة ونجوا بأنفسهم قبل وصول شرارة الانتفاضة اليهم صباح يوم ١١ آذار، كذلك الحال بالنسبة لمسؤولي محافظة دهوك والذين لاذوا بالفرار صبيحة يوم ١٣ آذار. في تلك الليلة وفي تمام الساعة الحادية عشر ليلا عاد الى مبنى مديرية شرطة المحافظة مديرها اللواء (طارق متعب) ومعه اللواء (لقمان حامد) مسؤول أفواج بالدفاع الوطني وكانت مفاجئة لنا من العيار الثقيل لكوننا سنكون مجبرين على تنفيذ أوامر مدير الشرطة والذي لن يتفهم الوضع بشكل صحيح وبوجوده سوف يكون مصيرنا مجهولاً، شعر الضباط المتواجدين معي بحراجة الموقف والذي عالجته من خلال حثي إياهما على ضرورة العودة الى مقر الفيلق الخامس مع مسؤولي المحافظة الآخرين المتواجدين فيه لأن تركهما المقر المذكور سوف يجعلهما عرضة للمسائلة والشك في سلوكهما هذا وقد أوصلتهما الى القناعة بكلامي وعزما على العودة بعد أن أوصاني مدير الشرطة بضرورة متابعة قيام منتسبي الشرطة في أقسامها ومراكزها بواجباتهم والاستعداد لمواجهة قادم الأحداث اصطحبناهما الى بوابة مديرية الشرطة وأثناء ذلك أوصيت أحد المساعدين بسحب ثلاثة مراتب شرطة من الرفاق الحزبيين العرب من واجب الحراسة ليكونوا في حماية مدير الشرطة والذي اعترض على هذه الخطوة وعدها اضعاف للقوة المكلفة بحماية مقر مديرية الشرطة، أقنعته بأن عدد منتسبي الشرطة المكلفين بهذا الواجب يبلغ سبعون منتسبا موزعين على كافة أرجاء البناية ولا خوف عليها من السقوط وبعد تركهما المديرية متوجهين الى مقر الفيلق الخامس عدنا الى داخل البناية والى غرفتي ونحن نتنفس الصعداء بعد أن عدت وأصبحت حرا في التصرف. في صباح يوم ١١ آذار وفي حوالي الساعة السادسة صباحا بدأت أصوات العيارات النارية تسمع في مختلف أنحاء مدينة أربيل من الجهة الشمالية وتزامن ذلك مع دخول العريف السائق لطيف الى غرفتي وهو يعلمني بصوت عالي بأن الانتفاضة قد بدأت في مدينة أربيل وفي نفس الوقت جاءني اتصال هاتفي من المرحومة والدتي والتي كانت تستفسر مني عن أصوات العيارات النارية وتطلب مني سرعة العودة الى المسكن وهي في أشد حالات القلق وعدم الارتياح من مصيري في ظل هذه الظروف الصعبة. خرجت من مكتبي الى الردهة الداخلية للبناية وأمرت كافة منتسبي القوة بالتجمع وطلبت منهم مرافقتي الى خارج البناية وعند وصولنا الباب الرئيسية للبناية شاهدنا الملازم الأول (عبد الوهاب اسماعيل) ضابط أمن الدائرة والتوجيه السياسي وكان بدرجة عضو فرقة في تنظيمات حزب البعث، وفور مشاهدته لنا ونحن نخرج من الدائرة وكان يحمل بندقية كلاشنكوف على كتفه بادرني قائلاً: (ها سيدي… وين رايحين) أجبته: (اسمع عبد الوهاب قبل شهر استشهد شقيقك النقيب في الجيش العراقي في الكويت: هيا رافقنا ولا تبقى في هذا المكان وبعكسه سوف يكون مصيرك كمصير شقيقك: أخي من أجل أهلك وأطفالك حافظ على حياتك) أجابني وعلامات الدهشة والتعجب من ما يراه بادية على محياه وهو يقول: (سيدي… تريد صدام يعدمني) تركناه ونحن نسير باتجاه الدار التي اخترناها سابقاً قبل يوم وقبل وصولنا اليه بمسافة توقفت وجميع مراتب الشرطة مجتمعين حولي فبادرتهم قائلاً: (أبنائي من هذه اللحظة لا علاقة لي بكم وكل واحد منكم يتصرف على مسؤوليته الخاصة… والآن انصرفوا ولا أريد ان أرى أحداً منكم خلال أقل من دقيقة) انصرف الجميع وعندما لم يبق أحد منهم توجهنا إلى الدار المقصودة وبعد طرقنا على الباب لثلاث مرات فتح صاحبها الباب ورحب بنا وأخبرنا بأن الفطور جاهز (الخبز الحار والقيمر والشاي) بعد جلوسنا لدقائق انقطع صوت الإطلاقات النارية وكان هذا مدعاة لقلقنا، طلبت من زميلي الرائد (عبد الله) الصعود الى سطح الدار واستكشاف الوضع فنزل مسرعا وهو يردد اطلاق النار مستمر بعدها بدقائق حضر أقربائي ورافقتهم الي حيث يسكنون لعدة أيام وبعدها عدت إلى داري. الملازم الأول (عبد الوهاب اسماعيل) بعد تركنا الدائرة قرر أن يموت حيث صعد الى سطح الدائرة وأخذ يقاتل الجماهير المتجمعة حول البناية ولقي حتفه هناك لعدم سماعه نصيحتي له والطلب منه مرافقتنا، بقيت جثته على سطح البناية لعدة أيام حيث حضرت زوجته وطلبت مني مساعدتها في إنزال الجثة ودفنها وفعلت ذلك بعد أوعزت لمجموعة من الشباب من أقربائي لتنفيذ هذه المهمة بحضور الزوجة لتكون على علم بمحل دفن زوجها.
أن الشيء المحير والعجيب كيف سيطر المخربون على اربيل بثلاث ساعات رغم وجود قوة كبيرة من المدافع أو الراجمات لكن الذي عرفته أن العميل مسعود البارزاني اتصل بأفواج الدفاع الوطني وزار المستشارين في دورهم في اربيل والاقضية والنواحي وهم الذين حاربوا الى جانب المخربين. الذين دافعوا عن اربيل هم الأمن وعدد من الرفاق في الحزب فقط. "
المتمدن "فجر يوم ٣/١٤ ... كانتْ الساعة تشيرُ الى الثانية تماماً ، حين إنطلقتْ أول قذيفة من أمام دار " إبراهيم حجي مَلو " بإتجاه مديرية أمن دهوك ، إشارةً الى بدء إنتفاضة مدينة دهوك . ثم إشتَدَ الرمي في كافة أنحاء المدينة ... كانتْ القِلاع الأمنية شأنها في كُل مُدن العراق ، حصينة ومُجّهَزة بكافة أنواع الأسلحة والذخيرة ، ومُكتظة بأزلام النظام ... حيث ان دوائر الأمن والاستخبارات والمنظمات الحزبية ومقرات الجيش الشعبي ، مّثَلتْ دوماً " هيبة الحكومة " ، والعصا الغليظة التي تُرهبُ بها الشعب ، وأماكن للتعذيب والتنكيل بأشجع وأحسن المواطنين ، سواء كانوا مُعارضين للنظام ، أو حتى يُشَك في ولائِهم .
- لم نَنُم تلك الليلة .. ومن منزلي الكائن في جنوب شرق المدينة ، سمعتُ في الرابعة والنصف من خلال صوت الرصاص المتقطع ، سيارات مارّة في الشارع المُقابل ، وصوت " شفان بروه ر " يصدح بأغاني ثورية . خرجتُ الى الباحة ، ورغم الظلمة ، عرفتُ ان السيارات هي شُبه عسكرية من تلك العائدة الى أفواج الدفاع الوطني ، او كما هو مُتداوَل " الجحوش " ... الذين إنقلبوا على نظام صدام ، وأطلقوا الإنتفاضة ... حيث كانوا هُم الوحيدين من أهل المنطقة الذين يمتلكون السلاح .
- في الخامسة والنصف ، جاء ابن اُختي من بيتهم القريب .. وحيث ان الكهرباء والتلفونات كانتْ مقطوعة منذ أشهر .. عزمنا على الذهاب الى الجانب الآخر من المدينة ، حيث يسكن أخي الأكبر .. كان الجو بارداً ومطرٌ ربيعي خفيف يُداعب الهواء .. حين وصولنا الى مركز المدينة ، وبالضبط عند مديرية الكهرباء " سابقاً " ، في تقاطع محلة " شيلى " والكلي ... كانتْ مسيرة كبيرة قادمة ، من المنطقة الشعبية " بروشكي " بإتجاه مديرية الشرطة والمحافظة ثم ... الى بيت القصيد : مديرية الأمن . كانتْ هذه الجموع خليطاً من النساء والرجال والشباب .. معظمهم يحمل العِصي او قطعة حديد ، والقِلة التي معهم أسلحة ، كانوا من منتسبي افواج الدفاع الوطني ، بالتأكيد . إستدرتُ بصعوبة وإتجهتُ قبلهم الى المركز ، ولأن نوافذ سيارتي البيك آب كانتْ مُغلَقة بسبب البرودة ... ومُقابل " مطعم دُنيا " إقترب أحدهم من السيارة وأشار بعصبية الى التوقف .. فوقفتُ فوراً ، فقال : هل تريد الإنتحار ؟ ألا تسمع صوت الرصاص المنهمر على الشارع من دائرة الامن ؟ لاتستطيع المرور . فرجعتُ قليلاً الى الوراء ، ونزلنا من السيارة . فعلاً كان الرمي متواصلاً .. وكانتْ العديد من الإصابات متناثرة هنا وهناك على جانبي الشارع ... صاح رجل : لمن هذه السيارة ؟ خُذ بعض الجرحى الى المستشفى . سمعتُ آخر قال ، ان هنالك قتيلٌ عند باب مصرف الرافدين بالضبط . على كُل حال حّمَلنا أنا وابن اُختي ، ستة جرحى وذهبنا بعكس الإتجاه الى مستشفى صدام . ولأنني أمتلك بعض الخبرة في التضميد ولان المستشفى كانتْ مُكتظة بالكثير من الجرحى والكادر الطبي والصحي قليل في ذلك الوقت .. بقيت في المستشفى للمساعدة .. وأخذ قريبي السيارة لجلب المزيد من الجرحى .
- كشاهدِ عيان ... بعض أفواج الدفاع الوطني ، والناس العاديين البُسطاء ، هُم مَنْ قاموا بإنتفاضة دهوك بالكامل . لم تكن هنالك أحزاب وحتى " التنظيمات الداخلية " لم يكن لها تأثيرٌ يُذكَر . بعد إنهيار السُلطة في المدينة ، وإستقرار الأوضاع ... اي بعد أيامٍ من بدء الإنتفاضة ، جاءتْ طلائع بيشمركة الاحزاب وقياداتها .. اي ان الحركة الجماهيرية سبقَتْ الاحزاب وليس العكس ."
كمحاولة من النظام للتصدي للمظاهرات المناوئة له في المنطقة الشمالية عثر على وثيقة في أمن دهوك بعد السيطرة عليها من قبل مناوئيه ورد فيها " تعليمات بغلق كافة المنافذ والطرق وتجري السيطرة على المناطق المرتفعة التي تشرف عليها ، أما البند الرابع فهو الأشد حسماً" بعد اتخاذ الاجراءات أعلاه وحصر العناصر المعادية، يتم استخدام القوة المسلحة وحسب التوجيهات المركزية بقتل ٩٥ بالمئة منهم وابقاء الآخرين لغرض التحقيق". لم يتح لمنتسبي الأمن تنفيذ تلك التعليمات حسب علمي ربما لقلة عددهم وانخفاظ معنوياتهم في بداية الانتفاضة.
عن وصول الانتفاضة الى مدينة كركوك كتب كامران قره داغي في مقالة نشرت على موقع درج " كركوك كانت المدينة الكبيرة الوحيدة التي لم تحدث فيها انتفاضة شعبية وحررتها قوات البيشمركة. قررت القيادة الكردية الهجوم على كركوك من ثلاثة محاور، أربيل شمالاً والسليمانية شرقاً وجنوباً. في كتابه بالكردية “نسور قنديل الحمر”، يشرح عضو المكتب السياسي السابق لـ”الاتحاد الوطني الكردستاني” فريدون عبد القادر الذي كان مسؤولاً عن محور السليمانية وكَرميان التي تشمل كركوك وخانقين وكلار وكفري ودوزخورماتو وغيرها، مما يسميه الكرد بالمناطق الدافئة، أن عمليات تحرير المناطق الكردية كانت تتم بمشاركة قوات البيشمركة التابعة للحزبين الرئيسيين وأحزاب أخرى، لكن تحرير كَرميان قادته قوات “الوطني الكردستاني”، إذ إن مسعود بارزاني المسؤول العسكري في كردستان في اجتماع معه قبل بدء الهجوم، “قال لنا إنكم تمثلوننا أيضاً ونضع الهجوم في أيديكم”. يضيف عبد القادر أن القوات المهاجمة من جنوب كركوك واجهت مقاومة عنيفة في دوز خورماتو، خصوصاً من قبل مقاتلي التنظيم الإيراني المعارض “مجاهدي خلق”، الذي كان يستخدم الدبابات والأسلحة الثقيلة وسقط خلال المعارك الضارية هناك الكثير من عناصر البيشمركة. كان هذا التنظيم الموالي للنظام يقيم قواعد عسكرية في العظيم وقرب جلولاء وقره تبه وسليمان بيك، ومقاتلوه لم يشاركوا في الحرب إلى جانب القوات العراقية وبالتالي ظلت معنوياتهم عالية كما انهم كانوا يدركون ان مصيرهم مرتبط ببقاء النظام البعثي الامر الذي يفسر ضراوة مقاومتهم لقوات البيشمركة. في النهاية حتى بعد تحرير كركوك فإن جنوبها ظل منطقة قتالية ولم تنجح القوات الكردية في الاستيلاء عليها. يروي عبد القادر تفاصيل دقيقة وكثيرة عن العمليات في جبهة كرميان والهجوم على كركوك، ملاحظاً أن قياديين في “الاتحاد الوطني الكردستاني” في مقدمهم نوشيروان مصطفى، توقعوا أن تصبح كركوك عاملاً سلبياً في مسيرة الانتفاضة، مضيفاً أن التطورات لاحقاً أكدت صحة توقعهم.
قوات البيشمركة دخلت من محورين إلى كركوك مساء ١٩٩١/٣/٢٠ من محوري السليمانية وأربيل وسيطرت على المدينة للمرة الأولى في تاريخ الانتفاضات الكردية، فيما فر منها علي حسن المجيد بطائرة هليكوبتر إلى تكريت تاركاً وراءه في مقار أجهزة النظام وحزب البعث أطناناً من الوثائق التي استولى عليها الكرد وشكلت لاحقاً جزءاً من الوثائق التي نقلت إلى الولايات المتحدة وما زالت مودعة في إحدى جامعاتها وديعة لمالكها الشرعي العراق. وشهد اليوم التالي احتفالات بتحرير المدينة وعيد رأس السنة الكردية نوروز معاً. تحرير كركوك كان نصراً تاريخياً للكرد ووجه ضربة معنوية للنظام البعثي. نوشيروان مصطفى كان أكبر مسؤول في قيادة “الوطني الكردستاني” الذي دخل إلى كركوك. في لقائي الخاص مع نوشيروان مصطفى في لندن، روى لي أنه بعد تحرير كركوك مباشرة تلقت قيادته هناك رسالة من أحد رؤساء العشائر العربية في الحويجة جنوب غربي كركوك، هنأ فيها نيابة عن رؤساء ١١ عشيرة عربية سنية رئيسية القيادة الكردية، مقترحاً التعاون والتنسيق بين الطرفين. مصطفى عبر عن اعتقاده بأن موقف هذه العشائر العربية كان نابعاً من مخاوفها من قرب انهيار النظام البعثي الحاكم نهائياً. أطلعني مصطفى على الرسالة التي كان يحتفظ بها في أرشيفه الخاص مشترطاً عدم استنساخها أو ذكر أسماء رؤساء العشائر الموقعين عليها. وجاء في الرسالة أن أجهزة النظام كانت تثير مخاوف السكان العرب بمزاعم مفادها أن القوات الكردية كانت تقوم باغتصاب النساء وتقتل السكان العرب، وتجبرهم على إخلاء قراهم وأملاكهم. لذا اقترح الموقعون أن تقوم القيادة الكردية بتوجيه نداءات عبر إذاعتها لتطمين السكان العرب بأن الثورة الكردية ليست ضد العرب، بل إنها “ضد نظام صدام الذي عانى منه شعبنا عرباً وكرداً مع الأقليات الأخرى”. ووعد موقعو الرسالة بأنه بعد أن توجه القيادة الكردية هذه النداءات، فإن وفداً يمثل رؤساء هذه العشائر سيقوم بزيارة القيادة الكردية.
تم بث النداءات والتطمينات التي طلبها رؤساء العشائر، فوصل وفد منهم إلى منتجع صلاح الدين للقاء بارزاني ومصطفى. الوفد طلب تعهدات من الكرد بأنهم لن يتعرضوا للسكان العرب ولن يسمحوا لـ”الجعفريين” الاستيلاء على السلطة. وأوضح الطرف الكردي للوفد “أننا علمانيون ونسعى إلى إقامة نظام ديموقراطي لا يميز بين السنة والشيعة وبين المسلمين والمسيحيين وبين العرب والكرد والتركمان”. وأوضح مصطفى أن القيادة الكردية كانت مهتمة جداً بفكرة التنسيق مع رؤساء العشائر العربية التي كانت حدود نفوذها تمتد حتى الفرات، وفي حال العمل المشترك يمكنها أن تحرر هذه المناطق بما فيها تكريت، خصوصاً أن أعضاء الوفد “تعهدوا لنا بأنهم سيحررون مناطقهم من سيطرة بغداد ولن يحتاجوا إلى أي دعم من الكرد بالسلاح والرجال وكل ما يطلبونه هو أن نرسل معهم فريقاً يمثل القيادة للتنسيق معهم”. فوق ذلك قال مصطفى: “تلقينا لاحقاً معلومات من مصادرنا بأن هذه العشائر اتخذت بالفعل إجراءات محددة تمهيداً للتحرك ضد النظام. وزادت ثقتنا بتعهدات رؤساء العشائر العربية أننا تلقينا رسالة ثانية تطلب التنسيق معنا هذه المرة من نحو ٢٠ رئيساً لعشائر في محيط تكريت”. لكن ما حدث بعد ذلك أن القوات العراقية بدأت الهجوم المضاد ضد قوات البيشمركة فأدركت العشائر العربية أن الوضع أصبح مختلفاً وليس في مصلحة الكرد، فقرر رؤساؤها، حفاظاً على مصالح عشائرهم، قطع اتصالاتهم بالكرد، لكنهم حرصوا على إعادة الفريق الكردي المرافق وسلامة وصول أعضائه إلى المناطق الكردية."
استعرض جلال الطالباني خلال الكلمة التي ألقاها باسم الجبهة الكردستانية في مؤتمر المعارضة العراقية الذي عقد في بيروت خلال الفترة من ١١-١٣-٣-١٩٩١ جانباً من انتفاضة آذار في كردستان حتى تاريخه ومما جاء فيها: "تم تحرير جميع القصبات والمدن في محافظة السليمانية، وكذلك تم أسر أو إقناع جميع قطاعات الفرقة السادسة والثلاثون من الجيش العراقي بالانضمام إلى صفوف الثورة أو الاستسلام للثوار الأكراد، وتوسعت الثورة الكردية بعد تحرير محافظة السليمانية، فوصلت إلى تحرير مدينة كفري الواقعة شرق مدينة كركوك الواقعة إدارياً ضمن محافظة صلاح الدين. وكذلك تم تحرير مدينة جمجمال، وكذلك جميع المعسكرات الإجبارية الواقعة بين مدينة السليمانية وجمجمال، وقد تم كذلك في لواء أربيل تحرير مدينة وأقضية جومان وراوندوز والصديق وميركة سور وشقلاوة وكويسنجق وطقطق ومصيف صلاح الدين، وكذلك العديد من المجمعات السكنية، وإيجازاً يمكن القول بأن أكثر من ١٢٠ ألف من الأكراد المسلحين، الذين غُرر بهم ونظموا فيما سُمّيت بأفواج الدفاع الوطني في العراق قد انضموا إلى صفوف الثورة الكردي وإن هناك أكثر من ستين ألفاً بين ضابط وضابط صف وجندي عراقي في منطقة كردستان العراقية المحررة، إن مثل هذا الإنجاز الضخم قد جاء تتويجاً لهذا النضال الباسل الذي قام به إخواننا الثائرون في الجنوب".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق