
هل رأى أحد منكم زعفرانيتنا آنذاك ؟ قطعة سمراء مرمية في فضاء الزمن ، نائية في سريالية تقلبات الستينيات وأوائل السبعينيات ، تحدها خوال من الأرض ، مئات من البيوت الحكومية الصغيرة تقع جغرافيتها الكالحة ، الحبيبة ألينا ، مابين شارع ديالى القديم وسدة المعسكر والرستمية ، حولها تنشأ مزارع خس وقمح وجت موسمية تفصلها من جانبها الجنوبي عن الجامعة الأمريكية التي شهدت أسوارها تلصصنا ونظراتنا المختلسة الى الفتيات الأنيقات داخلها والمتعجبة بأزياء أساتذتها القساوسة الذين كانوا أحيانا يجودون علينا بالمزيد من الهدايا من بينها كتب ومجلات أجنبية حفزتنا على التطلع الى العالم بعيون أكثر طمعا ، ومع المزارع مساحات مالحة لمن لديه متسع للعب والعبث أو للمطالعة على حواف السواقي أيام الأمتحانات هربا من حصار جدران بيوتنا . من كان يقف في عمق الزعفرانية على أقصى نقطة في شارعها الوحيد بأمكانه أن يرى السيارات وهي تسير على شارع ديالى العام ويرى السيارة التي تستدير لتنزل عنه باتجاه الدور ويعرفها لمن تعود فقد كان الذين يمتلكون سيارات عندنا لايتجاوز عددهم أصابع اليدين.كانت حياة سكنة تلك البيوت جلوسا خائفا في ظل لاهب بانتظار شيء يمنح الزمن معناه دون خوف . كلنا كنا نبحث عن المعنى . بعضنا ، مثلي ، يبحث في الأرض ، وبعضنا الآخر ، مثل رسول ، يبحث في السماء وكنا على اختلافنا مؤتلفين كئتلافي وكاظم . بعد ذلك بفترة


ليس غريبا على سلطة كانت تعاقب على الفكر والأنتماء السياسي أو مجرد الألتزام بمبدأ ما درجات من الأقرباء فينال شر عقابها الفعال الشديد حتى الدرجة الرابعة ولايسلم منها صغير ولاكبير أن تأخذ شابا مثل كاظم بما أخذت به رسول في حين أني لم أعرف عن كاظم ، وقد نشأنا معا في حي واحد ، أي هوى له غير الأدب والفن ولم أسمع من مصدر ثقة أن له صلة بحزب . كانت دائرة الأمن في الزعفرانية والتي جعلتها السلطة( مديرية ) لخطورة التحركات السياسية المناوئة لها وكثرة أنصارها في الحي ، تضع العيون لرصد حركات وسكنات أهل بيت آلوس .ثم احتال رجال الأمن لأعتقال حسن شقيق رسول وكانوا يعرفون أنه حذر ولايسلم نفسه بسهولة ويحتفظ بسلاح في متناول يده دائما . قطعوا التيار الكهربائي عن الحي بكامله نهارا ولبسوا ملابس العاملين في دائرة الكهرباء وتظاهروا بأنهم جاءوا لأصلاح الخطوط يقودهم الملازم علي الخاقاني ( أسمه المستعار كاظم ) من دائرة أمن الثورة ( مدينة صدام في العهد البائد وحاليا مدينة الصدر ). صعدوا الى السطح وفاجأوه وهو نائم في الغرفة العلوية . ذهبوا بحسن الى بيت سمير غلام بشارع فلسطين ( سمير غلام الذي قيل أنه نفذ هجوما على تجمع لرجال السلطة في جامعة المستنصرية وقتل في حينه وصادرت الدولة أملاك أهله ومنها هذه الدار الذي تحول الى معتقل للتحقيق مع المعارضين والمشتبه بمعارضتهم لحكومة البعث ) وجرى تعذيبه وكان التعذيب قاسيا الى درجة أن ساقه تورمت وامتلأت قيحا وكان يطلب من المعتقلين أن يساعدوه بأيجاد وسيلة لأخراج القيح الذي كان يؤلمه ألما لايطاق ، ثم لم يلبث أن أستشهد تحت التعذيب . ذكر من شهد تلك الأيام أن المعتقلين الذين رآهم من بيت آلوس هناك هم الحاج آلوس نفسه و أحد أبنائه وهو علي الذي حدثت أثناء تعذيبه حادثة نادرة . كانوا يربطون يدي المعتقل الى الخلف

دائرة الزمن كمنضدة الروليت تقف كل مرة عند رقم جديد ويكون الثمن نفسه . حدث بعد 8 شباط عام 1963 لعائلة (شيوعية) ماحدث لعائلة آلوس (الشيعية) عام 1982 . المصائب نفسها والجاني نفسه والضحايا لايختلفون ألا بالتسميات . بعد أن أعتقل عناصر الحرس القومي أفراد العائلة كلهم ومن وجدوه في الدار ساعتها تركوا وراءهم طفلا صغيرا رضيعا . كان الجيران يسمعون بكاءه دون أن يجرؤ أحد منهم على الذهاب أليه خشية أن يكون تركهم له مصيدة لأعتقال كل من يدخل الدار باعتباره متعاطفا مع هذه العائلة وربما كان هذا الهاجس صحيحا قياسا على وقائع أخرى في ذلك العهد الديكتاتوري الأول . حين طلع النهار وتأكد الجيران أنه لاخشية من الدخول الى الدار حملوا الطفل واعتنوا به ثم سلموه الى أقارب لأهله.هل رأى أحدكم بيتا من بيوتنا وهو فارغ من أهله ليلا ؟ أذا أغلقت بابه أغلقته على قبر بحجرتين . تصوروا طفلا رضيعا يضج بالحياة في قبر . بكاء بطول الليل يغالب الوهن . حياة صغير لايدري لم ترك وحيداً في عمى شاسع . بكاؤه سؤال عبثي عن حضن دافئ وصدر مفعم بالحليب وبحث عن صوت الوالد الباعث على الطمأنينة . أنه لايعرف شيئا عن تضاريس الطغيان التي ضاع فيها والداه أو الشر الذي ركنه في ظلمة الوحشة . وأعاد التأريخ نفسه بوحشية أكثر ضراوة مع عائلة آلوس ….حدثتني خالة غفران ( فاطمة كاظم ) قالت أن غفران أبنة الشهيدين رسول وحياة والتي فارقاها وعمرها بضعة أشهر تركت عندها لأن أمها بعد أعدام رسول جاءت مع طفلتها للعيش معها وقد أعتقلت فيما بعد من مكان عملها ( يوم 1 آيار 1982 ) وشقيقتها بشرى ( يوم 3 آيار 1982 ) وحين أعتقلوا عباسا شقيق رسول وزوجته أمل فارس من بيت والده أخذوا أطفالهما الثلاثة معهما ( نادية وكانت تبلغ السادسة من العمر آنذاك وشقيقين أصغر منها عمرا ) أعادوا الأطفال بعد أيام وحيث أنه لم يبق من العائلة أحد يسلمونه الأطفال ألقوا بهم عند الزقاق من جهة السدة حيث المياه الآسنة والكلاب السائبة . الأطفال لايعرفون مكانا آخر يذهبون أليه ففي هذا الزقاق بيتهم ولايدرون لماذا هو مقفل ولايستطيعون الأيواء أليه . لم يجرؤ أحد من سكان الزقاق ولامن أي مكان على الأقتراب منهم طوال ثلاثة أيام سوى محاولات سريعة خاطفة كانت تقوم بها ممرضة سامرائية تعمل في مستوصف الزعفرانية وتسكن الزقاق وتكنى أم عروبة . كانت أم عروبة تعاود الأطفال وهم في مكانهم فتزودهم بالطعام وأعطتهم بطانية كانت نادية ذات الستة أعوام تلف نفسها وشقيقيها بها وتنحني فوقهما لتحميهما في الليل من الكلاب السائبة التي كانت تأتي من أوجارها في السدة ليلا نحوهم تهر وتنبح ، ويظل الأطفال في رعب وهلع كل ليلة وسط الكلاب ألا أذا أشفق عليهم جار وأبعد عنهم الكلاب بسرعة وعاد ليختبئ في بيته . بعدها ذهبت أم عروبة الى المختار حسن ورجته أن يأخذ الأطفال عنده بأعتباره مختارا الى أن يسلمهم الى قريب لهم . حار المختار ماذا يفعل فهو لايستطيع أخذ ثلاثة أطفال الى بيته والعناية بهم وهو أيضا ، رغم أنه من جهة السلطة ، يخشى كغيره من العواقب الوخيمة أذا تصرف دون تخويل فذهب الى مديرية أمن الزعفرانية ليسأل المدير رأيه في الأمر . تبين أنهم لايهمهم أمر الأطفال ولامانع لديهم أن يصنع بهم المختار مايشاء . جاء المختار وأم عروبة الى خالة غفران ورجاها المختار أن تدله على قريب لهم فلم تتحرك من مكانها حتى طلبت منه أن يقسم على أنه لن ينالها أذى بسبب هذا العمل الأنساني فأقسم الرجل وأطمأنت وذهبت معهما مستصحبين الأطفال الى عمة لهم تسكن منطقة أخرى .لم يخبرني أحد عما صنعوا بكاظم في المعتقل فكأنه تلاشى في اللحظة التي أصعدوه فيها سيارة الأمن العام . أين ذهبوا به ؟ كل الشهود يقولون أنه كان في المعتقل . أعرف أنه لم يلبث أن ذهب يبحث عن ظل دافئ على مسافة من الزعفرانية يتربع فيه وينظر في سراب العصر الى أمل يقطع الهجير أليه خارجا من البيوت النائية . سألت هل يأتي الى بقايا أكباد الشهداء بانتظام ولو في المناسبات من يستفسر عن أحوالهم بعد كل هذه المآسي . كان الجواب لاأحد يأتي وقد أبلغوا غفران مرة للحصول على مساعدة عشرين دولارا فلما ذهبت قيل لها لاتستحقين لأنك متزوجة !! و لعل الجواب الأبلغ هو أمامي الآن على شاخصة معدنية خط عليها حوالي عشرين أسما طمستها اليوم ملصقات ورقية لتيار آخر .