الخميس، 16 سبتمبر 2010

القسوة لدى صدام حسين .."ليلة الهرير في قصر النهاية"

«انت الرائد الركن عبدالستار عبدالجبار العبودي؟»
فأجابه الضابط «نعم»
ثم سأله «ما دورك في المؤامرة»
الضابط «يا مؤامرة ويا دور الي بيهه.. يا جماعة آني ضابط قومي وحدوي» ثم اضاف «آني كان بودي لو كنت اعرف بالمؤامرة»

فأجابه الشاب باستنكار وبصوت عال «إشلون بودك تعرف المؤامرة»
فأجابه الضابط عبدالستار «نعم كان بودي اعرف بيهه حتى أبادر الى اعلام السلطات المسؤولة وفضحها.. ثم اية علاقة تربطني بجماعة مثل صالح السامرائي ورشيد الجنابي.. آني شاب قومي واشتركت بحركة عارف عبدالرزاق وبعد ثورة ١٧ تموز التقيت بالسيد الرئيس البكر بالقصر الجمهوري وليس بيننا شيء، وقد نقلني السيد الرئيس الى كركوك، وانا كنت هناك منذ عشرة ايام جيء بي الى بغداد وأودعت في سجن رقم ١ في معسكر الرشيد، وقبل ساعات قليلة جيء بي الى هنا ولا اعلم السبب فأية مؤامرة انا مشترك بيهه» كان يتكلم بثقة وثبات
فسأله الشاب «ولماذا جاءوا بك من كركوك ووضعوك بالسجن؟»
فأجابه عبدالستار «هاي قصة ثانية»
اجابه الشاب «نريد ان نعرفها. احكيها. انا مسؤول، ويجب ان تجيب على سؤالي؟»
كنا وجميع من في الغرفة نتابع هذا الحوار باهتمام حتى الحراس قد أنصتوا ايضا،
اجاب عبدالستار «قصة اعتقالي في كركوك وجلبي الى هنا هو ان امراً ادارياً كان قد صدر من وزارة الدفاع وعمم على جميع الوحدات ومنها الوحدة التي كنت فيها، وقد علقت بخط يدي على الورقة التي تحمل هذا الامر بعبارة «هذا أمر سخيف»، ويبدو أن تعليقي هذا على أمر وزارة الدفاع قد بلغ أسماع المسؤولين في بغداد، وعندما جاء السيد صدام حسين إلى كركوك مقر وحدتي في طريقه لملاقاة الملا مصطفى البرزاني، سأل آمر الوحدة عن الضابط الذي علق على الأمر الوزاري بعبارة أمر سخيف، فجيء بي إليه فما كان منه إلا أن مد يده إلى كتفي ونزع الرتبة العسكرية وطلب من الآمر إيداعي التوقيف لحين عودته، وعندما عاد من الشمال اصطحبني معه إلى بغداد، وأودعت سجن رقم ١ منذ عشرة أيام كما أخبرتكم، والآن جاءوا بي إلى هنا.. وهذه كل الحكاية.. يا جماعة صدقوني والسيد صدام حسين موجود ويمكنكم أن تسألوه.. فلا مؤامرة ولا يحزنون».

أحمد الحبوبي "ليلة الهرير في قصر النهاية"…

في ليلة ٢١ كانون الثاني من عام ١٩٧٠ أعلنت السلطة أحباط مؤآمرة حاول فيها مجموعة من العسكريين والمدنيين ,وبتمويل من ايران والمخابرات الأمريكية، تنفيذ محاولة أنقلابية ضدها , ورد ذلك في بيان رسمي كان نصه
"أن الفئة المتآمرة هي عبارة عن مجموعة من الرجعيين الحاقدين على كل تحول ثوري تقدمي والمعروفين بارتباطاتهم الوثيقة بالدوائر الأستعمارية ومن العناصر التي طردتها ثورة الرابع عشر من تموز.
وكان للبعض منهم ضلع في كثير من المحاولات التآمرية المشبوهة التي جرت في البلاد منذ ثورة تموز ١٩٥٨ . وقد سخرت الأمبريالية الأمريكية أجهزة مخابراتها كل أجهزة دولة ايران لمساعدة المتآمرين بكل ما يحتاجونه. وكلف موظف في السفارة الأيرانية في بغداد بدرجة سكرتير ثالث أسمه داود طاهر بالتنسيق بين المتآمرين وحكومة الشاه ثم جرى أول اتصال بين المتآمرين وحكومة الشاه ثم مع المخابرات المركزية الأمريكية وقد جرى أول اتصال بين المتآمرين وسكرتير السفارة الأيرانية داود طاهر في بغداد بتاريخ ١٥-٤-١٩٦٩ وفي ٢٨-١-٩٦٩ التقى عدد من المتآمرين بمدير المخابرات الأيرانية الدكتور فرزين وقد تم اللقاء في الكويت بحضور السفير الأيراني في الكويت وموظف في السفارة الأيرانية يدعى شيخ الأسلام وخلال هذا الأجتماع تحدث الدكتور فرزين الى المتآمرين ونقل لهم استعداد حكومة الشاه لوضع امكانيات الحكومة الأيرانية تحت تصرفهم. وحثهم على الأسراع بالعمل وابلغهم أن الولايات المتحدة الأمريكية مهتمة جداً بضرورة الأسراع بالقضاء على النظام الثوري في العراق وقد جرى بين المتآمرين ومدير المخابرات الأيراني حديث حول الموقف الذي يجب أن تتخذه حكومة الانقلابين من قضية فلسطين ومن المكتسبات الثورية التقدمية في البلاد. وقال مدير المخابرات الأيرانية أن على حكومة الانقلابيين أن تسرع بتنفيذ خطط أمريكا لتصفية القضية الفلسطينية وبذلك ستحظى بدعم الغرب وتأييده الكامل كما ابلغهم الدكتور فرزين بأن أمريكا ستضع كافة امكانتها لخدمة موآمرتهم الرامية الى اسقاط النظام الثوري في العراق. وقد تم الأتفاق في هذا الأجتماع على أن تقوم ايران بتزويد الطغمة المتآمرة بالمال والسلاح عن طريق الحدود العراقية -الأيرانية منطقة قضاء مهران -الأيراني. وبالفعل سلمت الحكومة الأيرانية بتاريخ ١٥-١١-١٩٦٩ للمتآمرين ألف رشاشة مع ربع مليون اطلاقة. وقد نقلت الأسلحة من قضاء مهران الأيراني واوصلت الى بغداد.. أما الوجبة الثانية من السلاح فقد تم نقلها الى بغداد بتاريخ ١٥-١٢-١٩٦٩ وعددها ألفي رشاشة واربعمائة ألف اطلاقة. وهكذا بلغ مجموع السلاح الذي استلمته المتآمرون ثلاثة الأف رشاشة وستمائة وخمسون ألف اطلاقة. وقد تم توزيع الأسلحة في أماكن متفرقة من بغداد وعلى شكل مجموعات. وقد حضر لدى نقل وجبتي الأسلحة من الحدود الأيرانية ضابطان أمريكيان من العاملين في وكالة المخابرات المركزية. وقام سكرتير السفارة الأيرانية داود طاهر بتسليم مبلغ عشرة الأف دينار الى المتآمرين بتاريخ ٢٥-١٢-١٩٦٩.
وبتاريخ ١١-١-١٩٧٠ سلم مبلغاً قدره ٥٠ ألف دينار الى ضابط بقصد شرائه وكان هذا الضابط الشهم الشجاع مكلفاً من قبل قيادة الثورة بالتسلل الى صفوف المتآمرين لكشف تآمرهم كما سلمت السفارة الأيرانية مبالغ أخرى كثيرة للمتآمرين الذين باعوا وطنهم وشرفهم للاجنبي. كما قامت السفارة الأيرانية في بغداد عن طريق سكرتيرها داود طاهر بتزويد المتآمرين بجهاز لاسلكي للاتصال بايران وقد تسليم الجهاز بتاريخ ١٣-١-١٩٧٠ وهو بقوة ٢٠ كيلو واط.
وبتاريخ ١٧-١-١٩٧٠ سلم جهاز لاسلكي أخر أصغر ليكون جهاز احتياط في حالة تعطل الجهاز الأول. أن الزمرة المتآمرة كانت تعتمد على المتآمر المجرم عبد الغني الراوي الذي ارتضى لنفسه أن يستظل بحكم العمالة في ايران منذ بضعة أشهر وعلى عدد من الضباط المتقاعدين الحاقدين على الثورة والاتجاه الوطني والتقدمي. وقد استخدم المتآمرون بعض البيوت في بغداد لاجراء الأتصال مع موظفي السفارة الأيرانية وبحث مخططات التآمر معهم ومن البيوت التي استخدموها بيت الدكتور حسن الخفاف وزوجته سعدية صالح جبر الكائن في المنصور وبيت الدكتورة فاطمة الخرسان في الكرادة . وكان هذان الداران يستخدمان لتبادل الرسائل بين السفارة الأيرانية والمتآمرين. وقد شكل المتآمرون جهازاً خاصاً مهمته اغتيال كبار المسؤولين في الحزب والدولة كجزء من العملية التآمرية وقد تم اعتقال كل عناصر هذا الجهاز. أن الأجهزة الساهرة على أمن الثورة وسلامتها كانت منذ البداية على علم بتفاصيل الموآمرة وكان رجالها قد تسللوا الى أجهزة المتآمرين وهي تحتفظ بتسجيلات كاملة لاغلب الأجتماعات واللقاءات وسوف تذاع هذه التسجيلات على أبناء الشعب. وقد قرر المتآمرون أن يكون تنفيذ المؤآمرة في يوم ١٧ الجاري ثم تقرر تأجيل التنفيذ الى ليلة ٢٠/٢١-١ الجاري. وكانت خطة المتآمرين تستند على أساس تجميع عناصرهم من العسكريين المتقاعدين والهجوم على كتيبة دبابات الرشيد والاستيلاء عليها وكذلك السيطرة على بعض الوحدات في بغداد”.
بعد مراجعة لعدة مصادر ورد فيها ذكر لتلك المحاولة يتبين أن السلطة علمت بها من خلال عدة أشخاص احدهم كان حسن الخفاف , فقد ورد في مذكرات وزير التخطيط الأسبق جواد هاشم عن ذلك الدور
حسن الخفاف موظف بسيط في مديرية التقاعد العامة، وله في الوقت نفسه عيادة لتركيب الأسنان. وهو أبن خالتي ومتزوج بسعدية صالح جبر، أبنة رئيس الوزراء العراقي المعروف في العهد الملكي وبالرغم من القرابة التي تربطني بالخفاف . ألا اننا لم نكن متقاربين، لا فكرياً ولا في العمل السياسي ، ولم أكن قد التقيت به لسنوات طويلة ألا أنه زارني في أوائل كانون الأول ١٩٦٩ ، في مكتبي بوزارة التخطيط. كان في حديثه الكثير من القلق والخوف ، ولم يكن ذاك غريبا ، حين عرفت بالموضوع.
تلفت يميناً ويساراً ، وقال بصوت خافت ومرتجف: -أريد أن أريح ضميري واخبركم أن هناك مؤآمرة تدبر من قبل عدد من العسكريين والمدنيين لقلب نظام الحكم. سكت قليلاً ليشعل سيجارة، ويده ترتجف ، ثم استمر بالقول: - أن الأجتماعات تعقد بداري بمدينة المنصور ، وانا عندما التقيك هنا لا أخاطبك كقريب لي فحسب ، بل كمسؤول لاتخاذ الأجراء اللازم. وكل مااريده هو أن أعطى الأمان ون يسمح لي بالسفر الى الكويت للعمل هناك. ثم أشعل سيجارة ثانية وثالثة ، واخذ يذكر أسماء العاملين في هذا التنظيم: العقيد المتقاعد عبد الغني الراوي ، العقيد المتقاعد صالح مهدي السامرائي، ( الملحق العسكري في بيروت في العهد الملكي ، النقيب فاضل الناهي، و...مرافق أحمد حسن البكر المقدم فاضل البراك.
سكت الخفاف ، واخذ يبكي مردداً أن "المتآمرين" لو عرفوا بحديثي معك ، فانهم سينتقمون مني ومن عائلتي. ثم أضاف " أن المؤآمرة هي بالاتفاق مع الحكومة الأيرانية ، وان السفارة الايرانية في بغداد تزودنا بالمال والسلاح"، موكداً أن " أبا ناجي" (أي بريطانيا) مرتاحة الى العملية “.
“هزتني خطورة تلك المعلومات ، فاندفعت حال خروج ابن خالتي الدكتور حسن الخفاف الى رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر ، في القصر الجمهوري ، لنقل تلك المعلومات اليه.
وصلت القصر ظهراً ودخلت مكتب الرئيس ، وما أن بادرت بالحديث عن الموضوع حتى هب البكر مقاطعاً :
- هذا موضوع تآمر وعسكر ، اذهب حالاً لمقابلة الرفيق أبي عدي صدام حسين لبحث الموضوع معه.
وقادني عبر ممر داخلي الى غرفة صدام حسين.
كان صدام حسين مستلقياً على فراش النوم متوعكاً ، ورأسه ملفوف بمنشفة. ذكرت لصدام كافة المعلومات ، وهو يسمعها بهدوء.
وما أن انتهيت، حتى قال لي: أرجو أن تشكر الدكتور حسن. وسحب من درج قريب مبلغ ٢٠٠ دينار وطلب مني أن أسلمها الى الدكتور حسن، واطلب منه أن يتعاون مع أبي رعد (سعدون شاكر) ، مدير مكتب العلاقات العامة، وهو جهاز المخابرات آنذاك، ليضعوا لاقطات لتسجيل ما يدور في اجتماعات المتامرين.
التقيت أبن خالتي في صباح اليوم التالي في مكتبي في الوزارة ، سلمته المبلغ، وابلغته تقدير صدام لمبادرته ، وضرورة تعاونه في وضع اللاقطات في داره.
كان تجاوب حسن الخفاف كاملاً. وفي يوم لاحق زرته في داره ، حيث طمأنني الى أن أدوات الانصات مثبتة، وكل شيء على ما يرام. كان تقديري في ذلك الوقت ، أني قد قدمت خدمة الى الحزب والثورة، وان حسن الخفاف قد أمن على حياته بهذا التعاون مع النظام“.
اثبتت الأيام بعد ذلك كم كان جواد هاشم مخطئاً في تقديره ,فعلى الرغم من قيام الخفاف بافشاء أسرار المحاولة والتعاون مع السلطة فلم يلق غير الجحود ، فلم يكتف البيان الرسمي باهمال ذكر دوره بافشاءها فقد نفذ حكم الأعدام به مع من وشى بهم . عن ذلك الجحود كتب جواد هاشم
“ في طريق عودتي مع الوفد إلى العراق مروراً بباريس، استقبلني الدكتور محمد المشاط، سفير العراق في باريس، وفي السيارة بدأنا نستمع إلى نشرة أخبار الساعة الثانية عشرة مساءً عبر راديو بغداد. بدأ المذيع بقراءة بيان رسمي عن كشف المؤامرة، وإذاعة أسماء «الوجبة» الثانية من المتآمرين الذين تم إعدامهم.
كم كان وقع المفاجأة شديداً عندما سمعت اسم حسن الخفاف من بين «الوجبة» الثانية من الذين نُفد فيهم حكم الإعدام.
يا ترى ماذا حصل؟ هل هناك تطور جديد؟ هل انقلب حسن الخفاف عليهم، وهذا أمر يكاد يكون مستحيلاً بعد أن كشف كل أوراقه لهم؟ تناهت إليّ أسئلة كثيرة من دون جواب واحد.
" سعيت إلى العودة إلى بغداد بأسرع وقت ممكن. وهكذا، كانت زيارة باريس بمثابة كابوس كنت انتظر الخروج منه بالسرعة الممكنة. حال وصولي إلى بغداد، ذهبت لمقابلة صدام، وكان مرحباً بي، وأخذ يصف لي نجاحهم في كشف المؤامرة، وكيف ضبطوا كمية كبيرة من السلاح، منها ٣٠٠٠ رشاش، وأنه احتفظ لي بواحد منها على سبيل الهدية، ولكنه لم يذكر موضوع ابن خالتي؟
وعندما استفسرت منه عن ذلك، رد بكل بساطة قائلاً: لقد حدث «خطأ» لم أستطع تداركه في الوقت المناسب. وهكذا، أُعدم الدكتور حسن الخفاف من جراء «خطأ». لم يوضح صدام كيف يمكن أن يحصل مثل هذا الخطأ، وهناك محاكمة وشهادات. ومع ذلك، أردت أن اصدق ما قال لي، وأُبعد عن ذهني مرارة الشك، مع أن تعابير وجه صدام والطريقة التي وصف بها العملية، والهدية التي قدمها الي، وضعتني في جو، وكأن ما حصل لحسن الخفاف هو أمر ثانوي قياساً بالقضاء على المؤامرة”.
كان المصدر الثاني , والذي زود السلطة بالمعلومات التي أدت الى احباط تلك المحاولة , الحزب الشيوعي حيث ذكر بهاء الدين نوري في مذكراته
"في يوم من أيام كانون الثاني ١٩٧٠ قدمت الينا السفارة السوفيتية في بغداد معلومات تفصيلية ملموسة حول خطة محكمة للقيام بانقلاب عسكري. وسينطلق اللواء العاشر المدرع من ثكنة عسكرية كانت في الماضي ميداناً لسباق الخيل بجانب حي المشتل. وكان الضابط المتقاعد عبد الغني الراوي، المشارك النشط في انقلاب ١٩٦٣ والذي دخل بعدئذ في خلافات حارة مع البعثيين ، من أنشط المساهمين في الطبخة الأنقلابية الجديدة أيضاً.
أرسل مكرم الطالباني موفداً من قيادة الحزب الشيوعي العراقي الى رئيس الدولة أحمد حسن البكر حاملاً اليه الخبر بتفاصيله ، التي كانت تقضي باحتلال مبنى الأذاعة والتلفزة والقصر الجمهوري تحت جنح الظلام. ويبدو أن الحكام البعثيين لم يصدقوا تصديقاً تاماً، في بادىء الأمر. لكنهم اتخذوا التدابير الفورية من باب الأحتياط. وفي ساعة الصفر المحددة بدأ التمرد من الثكنة المشار اليها وجرت مصادمات واحبطت المحاولة الأنقلابية لانها كانت قد فقدت عنصر الكتمان والمباغتة. ويتراءى لي أن نجاح الأنقلاب كان مضموناً فيما لو لم يحط البعثيون علماً بالامر قبل وقوعه.
في اليوم التالي لأحباط المحاولة الأنقلابية استدعى البكر الطالباني الى القصر الجمهوري من جديد وشكر الحزب الشيوعي العراقي ، وقال ما معناه : لن أنسى ما حييت هذا الجميل. لقد انقذنا الحزب الشيوعي من السقوط الموشك. لن تكون هذه شوارب رجل - وقد مد أصابعه لشورابه- ولن يكون لي شرف عسكري اذا قبلت بعد اليوم بأي اضطهاد للشيوعيين في ظل نظامنا هذا".
أما الضابط الشهم الشجاع الذي ورد ذكره في البيان الرسمي والذي استطاع كسب ثقة المتآمرين واحباط المؤامرة فهو على الأغلب فاضل البراك .
فعن دورالبراك كتب جواد هاشم “ اجتمع المتآمرون في ١٩ كانون الثاني (يناير) ١٩٧٠، وحددوا الساعة الثامنة من مساء يوم ٢٠ من ذلك الشهر موعداً للتنفيذ. وكانت الخطة أن يتوجه العقيد صالح السامرائي مع ٥٠ عنصراً إلى القصر الجمهوري، حيث يكون فاضل البراك بانتظارهم، فيلقي القبض على البكر وأعضاء مجلس قيادة الثورة، عندما يكونون مجتمعين في الطابق الثاني من القصر (قاعة الاجتماعات). .
وجاءت ساعة الصفر: الثامنة مساء يوم ٢٠ كانون الثاني (يناير) ١٩٧٠، وفتحت بوابة القصر الخارجية ليدخل السامرائي وزمرته، ويستقبلهم البراك مرحب بهم مؤكد لهم أن البكر معتقل في إحدى غرف الطابق الأرضي (السرداب)، ودخل الجميع صالة الاستقبال الكبرى.
وما إن وقعت عينا العقيد صالح السامرائي على صورة البكر المعلَّقة في الصالة حتى صاح بأحد جنوده، يأمره بإنزال الصورة. وفجأة دخل حرس القصر القاعة لإلقاء القبض على المتآمرين. حاول السامرائي المقاومة، وجرى تبادل لإطلاق النار، فقُتل جنديان من حرس البكر. ولم تطل المقاومة، كما لم تطل محاكمة السامرائي. “
على الرغم من ترقية البراك بعد ذلك حتى توليه منصب مدير الأمن العام واسهامه من ذلك المنصب في القضاء على مجاميع أخرى من" المتآمرين" فمصيره في النهاية انتهى كمصير حسن الخفاف.
ولم يكن مصير الضابط الأخر العقيد الركن محمد علي سعيد (مدير الحركات العسكرية ) الذي اخترق المجموعة أفضل من مصير فاضل البراك أو حسن الخفاف حيث أعدم هو الأخر في نيسان ١٩٧٩ مع مجموعة كبيرة من الضباط البعثيين السامرائيين في سجن أبو غريب.
آلية عمل المحكمة الخاصة ووكيفية التحقيق مع من ألقي القبض عليه ذكرها ً أحمد الحبوبي في كتابه "ليلة الهرير في قصر النهاية " قائلا
"وقفنا وسط الصالة ننتظر، ومرت لحظات وإذا بمجموعة عن عسكريين ومدنيين يخرجون علينا من غرفة جانبية ويتجهون نحونا، وسمعت الحارس الذي قادنا الى هذه القاعة يقول (هذا سيادة رئيس المحكمة لحد يتحرك) واتجهت انظارنا نحو رئيس المحكمة وكان يتقدم المجموعة، وإذ به ضابط برتبة رئيس اول، اسمر اللون، مربوع القامة ممتلئ الجسم، لونه يميل الى الصفرة، ويتدلى من وسطه مسدس، وكان حاسر الرأس، هذا إذاً رئيس المحكمة الخاصة الذي سيحاكمنا، هذا هو (طه الجزراوي)!
وقف غير بعيد من دائرتنا ووقف بجانبه وخلفه مجموعة من الافندية والضباط، ولم اعرف احدا منهم سوى (محمد فاضل) الذي كان عضوا في محكمة الثورة التي حاكمت العميد عبدالهادي الراوي. وكنت وكيلا عنه، في دعوى اتهم فيها مع مجموعة من عسكريين ومدنيين بالتآمر لاطاحة بنظام البعث).
إني اراه الان يقف بجانب طه الجزراوي ويحمل اوراقا كثيرة فقلت ماذا يعمل هنا، فهو ليس عضوا في هذه المحاكمة فالعضوان الآخران هما ناظم كزار، وعلي رضا، ثم استدركت ما أغباني!
إني أبحث عن الصفة الرسمية، والقانونية، لهذا الشخص، ولمثله، وعن معنى وجوده هنا، فإن لم يكن هنا الساعة، فأين يكون إذاً!
هذا هو مكان القتلة! تفرست في وجوه الآخرين من مدنيين وعسكريين ولفت نظري أن محمد فاضل «أعدم مع ناظم كزار ومجموعة من البعثيين بتهمة التآمر سنة ١٩٧٣» ينظر نحوي بطرف عينه، وكأنه لا يريدني ان اشعر بذلك، مرت لحظات والكل ينظر الى رئيس المحكمة
ونطق أخيراً الجزراوي، فقال موجها كلامه إلينا
«اسمعوا... انتو مشتركين بالمؤامرة القذرة اعترفوا أحسن إلكم.. امامكم ربع ساعة حتى تعترفوا.. ومصير اللي ما يعترف مثل هذوله اللي شفتوهم الآن معدومين بالساحة.. إسمعتوا؟»
ثم سكت!
هذا ما نطق به رئيس المحكمة التي ستحاكمنا بالعدل والقسطاس، ووجدتني أردد مع نفسي «أكلناها والله، رحنا بشربة ميه، والله يرحمنا»
ثم التفت طه الجزراوي الى محمد فاضل وقال له: «وزع عليهم الورق» هنا صاح العميد شاكر مدحت السعود «يا جماعة، آني ما مشترك بالمؤامرة» فما أنهى جملته، حتى انقض عليه بعض الواقفين وأخذوا يضربونه على وجهه ضربات سريعة «سطرات ولكمات» والرجل يحجب بيديه دون جدوى، فرثيت لحاله.
يُضرب لأنه تجرأ وقال شيئاً امام رئيس المحكمة، وكان عليه ان يتأدب في حضرته ولا يفتح فمه بكلام يدافع فيه عن نفسه، انه لم يقل أكثر من أنه لم يشترك في المؤامرة، فمن حقه ان يقول ما يشاء في موقف كهذا.. ضرب الرجل بشدة وسرعة، فتراجع إلى الخلف اتقاءً للضرب، ولملم نفسه، ووقف ساكتاً، وهنا انبرى حسن العكيلي وكان احد المتهمين، قائلاً: «يا جماعة آني أمي ما اعرف اكتب».
فابتسمت في سري لكلمته، فقد هزتني من الأعماق لأنها كانت صادقة وبريئة ومفحمة، فرئيس المحكمة يريد اعترافا خطياً، والرجل لا يعرف القراءة والكتابة، وأعلنها جريئة وصريحة، اعجبتني، ولم يعتد عليه أحد كما اعتدى على العميد شاكر فما عساهم يفعلون امام هذه الحقيقة، هل يُضرب لأنه أُمي؟ فسكتوا امام جوابه المفحم، وشعرت أنه قد انتصر عليهم.
أعطى محمد فاضل ورقة بيضاء لكل واحد منا، وبعد ان انتهى من توزيع الاوراق قال طه الجزراوي «أمامكم ربع ساعة للاعتراف.. وعدكم الأوراق يا لله اعترفوا أحسن الكم» ثم انسحب عائداً من حيث أتى هو وبعض ممن جاءوا معه، ودخلوا الى احدى الغرف الجانبية، واندفع نحونا الحراس يدفعوننا الى جدران الصالة بحيث يقف كل واحد ووجهه الى الحائط، ويبعد عن الآخر ثلاثة امتار تقريبا، ووقف بجانب كل واحد منا حارس يحمل رشاشا ومسدسا، يمنعنا من الالتفات يمنة او يسرة او الى الخلف. وان فعل احدنا ذلك، يعالجه بضربة من كعب رشاشته او كفخات على رأسه، وتذكرت جماعة الامس حينما جيء بي الى هذا المكان، فها نحن نقف في مكانهم، وما اشبه الليلة بالبارحة، وتذكرت الرجل الشاحب صاحب الزبون والسترة الذي اختفى. لا أعلم لماذا أنا هنا؟ مسكت الورقة بيدي ورحت اتساءل ماذا اكتب! وبم اعترف!
وتذكرت المرحوم الرائد عبدالستار وحواره مع الجماعة، وكيف كان مصيره، فقد اعدم لأنه علق على امر بكلمة «سخيف»، فما هي يا ترى جريرتي التي اعدم من أجلها؟ توصلت الى يقين ان الجماعة قد جاءوا بي الى هنا من اجل اعدامي، والتخلص مني، وان زجي واتهامي بالمؤامرة المزعومة إنما هو تبرير ليس غير، تماما كما فعلوا مع الرائد عبدالستار، صحيح انني ضد حزب البعث، وسياسته، ولكن هل استحق على موقفي هذا الاعدام؟. وبدأوا يكتبون اعترافاتهم، وحانت مني التفاتة وإذا براهي يقف بجانبي، ولاحظت انه لا يكتب شيئا فقد مسك الورقة والقلم بيده وراح ينظر نحوي بطرف خفي، ويخاف أن يلتفت إلى الوراء (خوفا من الكفخات)، صاح به الحارس الذي يقف بجانبه «ما تكتب اشما لك»؟ فأجابه بصوت خفيض «أغاتي شكتب» فرد عليه «أكتب عن دورك بالمؤامرة» فأجابه «يا مؤامرة أغاتي» فأجابه هذا «عجايب علويش جايبيك لعد»؟ فأجابه المسكين «والله أغاتي ما أدري» وهنا ضاق به الحارس ذرعا فصاح به تكتب ما تكتب يطبك مرض.
وبعد تفكير طويل وحيرة، اسندت الورقة الى الحائط وأنا استرجع، وأحوقل، واقول «ماذا تنفع الكتابة عند من لا يقرأ ولا يكتب»، يا لها من مهزلة وقررت ان امتنع عن الكتابة، ثم تراجعت، وقلت في نفسي لم لا اكتب وان كانوا لا يقرأون، ولكني اكتب لمن يريد ان يقرأ من بعدهم وكتبت: «انا فلان الفلاني جيء بي الى هذا المكان ولا اعلم سببا لهذا المجيء حتى الآن، فإن كان من اجل المؤامرة الامبريالية الرجعية الايرانية كما وصفت، وكما سمعت عند الاعلان عنها من الاذاعة، فأنا رجل معروف الاتجاه والانتماء العقائدي، انا رجل وحدوي اشتراكي، واربأ بنفسي وعقيدتي وشرفي، ان اتورط، واكون ضالعا بمثل هذه المؤامرة، والله على ما اقول شهيد..»
ثم سلمت الورقة إلى الحارس الواقف بجانبي الذي كان يراقب كتابتي، فأخذها ونظر فيها قم قال بنبرة فيها تعجب وتهكم: «هذا هو اعترافك؟» فأجبته بإيماءة من رأسي دون كلام، فسكت وظل ماسكا الورقة يعيد قراءتها وينظر إليّ كأنه غير مصدق، وهنا رأيت شخصا مقبلا نحونا يحمل ورقة بيضاء مع قلم ويقف عند كل واحد منا فيسأله شيئا ثم يكتبه في الورقة إلى ان وصل إلى راهي فسأله «وين تسكن وشنو عنوانك ورقم بيتك بالضبط؟»، فتلعثم راهي ثم ذكر له عنوانه ورقم بيته، ثم جاء ووقف عندي، وسألني «أين تسكن وعنوانك ورقم بيتك أستاذ؟» فأجبته أني أسكن بحي الصليخ، ولكني لا اعرف رقم بيتي «لم أكذب عليه»، فالحقيقة أني لا أعرفه، انزعج من اجابتي، فما كان الا ان اجاب بعصبية «لوين نودي جثتك.. لعد نرميها بالدرب؟» لم أتمالك نفسي من الضحك قائلا له بسرعة وبسخرية «شنو الفرق.. يعني يهم الشاة أن تصلخ بعد ذبحها» فأجاب «عجايب.. زين.. زين»
ويكمل أحمد الحبوبي عن كيفية اكمال المحكمة لعملها وتنفيذ أحكام الأعدام قائلاً
"تنبهت مذعوراً على صوت التلفون يرن بشدة، وللمرة الاولى اسمع رنين جرس التلفون منذ ان جيء بي الى هنا، ظل رنين التلفون مستمراً، ثم رفعت السماعة، وسمعت صوتاً يقول: «هلو.. نعم سيدي.. نعم سيدي»، ثم اقفلت السماعة،
وبعد لحظة اذا بصوت عال يسمعه الجميع، كل من في الدهليز ونزلاء الزنزانات يعلن عن اسم شخص «فلان ابن فلان»، ونسمع اقداماً تتجه الى زنزانة الشخص المطلوب، ويستخرج منها ، ثم يعلن المنادي وبصوت عال ايضاً ومسموع عن اسم آخر «فلان ابن فلان» وتتجه نحو زنزانته اقدام لاستخراجه هو الآخر، هكذا وعلى هذا المنوال نودي على سبعة او ثمانية اشخاص، ممن يحتلون الزنزانات، وحصل ضجيج جراء فتح وقفل ابواب الزنزانات واقدام كثيرة تروح وتجيء سواء من الحراس او الاشخاص المطلوبين، وقد مر بعضهم من امام زنزانتي، فقد سمعت واحداً يقول «على كيفك اخوي عوّرت ايدي»، ويبدو ان الحارس قد شد بقوة على ذراع الشخص المساق.. ثم ابتعدت الضجة، وسمعت صرير الباب الحديدي الكبير يفتح ثم يغلق، وكأن الجميع قد خرج، ولم اعد اسمع شيئاً، نهضت واقفاً، وألصقت خدي على باب الزنزانة الحديدي، علّني اسمع شيئاً، فقد ران الصمت من جديد وبدأت الافكار تشتغل الى اين ذهبوا بهؤلاء؟ هل افرج عنهم؟ هل طلع النهار؟ الظلام هنا حالك لا يسمح حتى برؤية عقارب الساعة، واسئلة اخرى اخذت تلح. وبينما انا في هذه الافكار اذا بدوي الرصاص يمزق السكون ويرج المكان رجاً، زخات وراء زخات استمرت دقائق عدة، ثم اخذ يضعف ويتقطع الى ان سكت تماماً، وحل سكون مخيف، واذا بصوت ينبعث من الدهليز يصيح بأعلى صوت «هذه وجبة من الخونة قد ذهبت الى مزبلة التاريخ»، ثم اعقبها بقهقهة عالية، وانشغل فكري مع هذه الوجبة، منذ قليل كانوا جيراناً لي ويحتلون الزنزانات المجاورة، ها هم الآن جثث تفترش ارض الحديقة، لم اعرف احداً منهم، ورحت اتساءل: هل حوكموا. ومتى جرت محاكمتهم وكيف؟ لقد نقلوا من الزنزانة الى ساحة الاعدام رأساً، لا شك ان الحكم قد صدر عليهم مسبقاً حتى قبل اعتقالهم، وانما جيء بهم الى هنا للتنفيذ فقط، وما يعلن في الاعلام الحكومي هو كذب في كذب، فليس للمحكمة اي وجود، ورن جرس التلفون من جديد واخذ قلبي يضرب بعنف ـ ان رنينه نذير شؤم، انه واسطة الموت، هو الذي يحمل اوامر الاعدامات، ان مصيرنا معلق في سماعة هذا التلفون، هل انا سأسمع اسمي مع وجبة جديدة ترسل الى الموت. رُفعت السماعة وطاحت قلوبنا ـ نحن نزلاء الزنزانات ـ فالكل يتوقع ان يسمع اسمه، واجاب الصوت نفسه «نعم سيدي.. نعم سيدي» ثم يغلق السماعة، وتصيخ الاسماع. انها لحظات قاتلة لا تحتمل، انها النطق بالاعدام، ونطق المنادي بصوته الجهوري الاسم الاول وفتحت زنزانته واحضر صاحبها.. كنت اعد الاسماء اسما وراء اسم، وكنت اتوقع سماع اسمي، فإن اخطأه المنادي، او تخطاه، قلت في نفسي ان اسمي، سيجيء وراء هذا الاسم دون شك، ونادى على سبعة اسماء او ثمانية، كانت اسماع كل منا متعلقة بالحرف الاول من الاسم، فمنه يعرف المعني والمطلوب تنفيذ الحكم فيه.. انها عملية مرهقة، تختلط فيها الحروف والاسماء وتضطرب المشاعر، فالكل يتوقع ان يسمع اسمه، فإن تعداه المنادي الآن فسيعلنه بعد حين. اقتيدت هذه الوجبة من زنزاناتها، كما اقتيدت الوجبة السابقة وخرجت من البوابة الكبيرة... وظلت اسماعنا مشدودة الى سماع دوي الرصاص، كما هو متوقع فقد عرفت الحكاية او اللعبة: تلفون يدلي بأسماء من يراد اعدامهم ممن يحتلون هذه الزنزانات، ويقوم الحراس بعملية ايصالهم الى ساحة الاعدام حيث التنفيذ.. ولكن كم يا ترى عددنا ـ نحن نزلاء هذه الزنزانات؟ لم يطل انتظارنا، فقد لعلع الرصاص مزمجرا من الرشاشات، وحصد اجسام هذه الوجبة الاخرى.. ثم ران السكون الذي قطعه صوت من الدهليز «هذه وجبة اخرى من الخونة تذهب الى مزبلة التاريخ» اعقبتها قهقهة عالية..
ولا ادري كيف تعلق فكري بعبارة «مزبلة التاريخ» فقد تكررت كثيرا وتساءلت عما اذا كان للتاريخ مزبلة، فإذا كانت له مزبلة فله جنان وقصور.. ايضا حسب المنطق نفسه، وتساءلت عمن يذهب اليها، وبتمتع بمباهجها، ومن الذي يوزع الناس بين المزبلة والجنة، وهل نحن البشر نملك هذا الحق؟ يا لها من سخرية.. هذه وجبة اخرى حصدت ارواحها وستعقبها وجبات، فالزنزانات ما زالت تضم الكثير من المتاعيس. وتعلقت الاسماع بجرس التلفون انتظارا لرنينه. عرف الاسلوب، ينادى على الاسماء، تساق من الزنزانات الى مكان الاعدامات ويتم اعدامها رميا بالرصاص.. هكذا بكل بساطة.. ولا يستغرق من الوقت اكثر من نصف ساعة بين سماع الصوت من خلال التلفون وبين عملية التنفيذ، فكل شيء مهيأ ومرتب ومعد سلفا، ولا داعي لتضييع الوقت في محكمة ومحاكمة.
وهنا رن جرس التلفون وانقطعت حبال الآمال، انه نذير الموت والدور آت ولكل اجل كتاب، وسمعت الصوت التقليدي يرد «نعم سيدي نعم سيدي» بانتظام وبنبرة عسكرية وتنتهي المكالمة وتشرئب الاعناق ويخيم سكون رهيب، وكأنه سكون الموت، فهذه اللحظة على قصرها، كأنها الدهر، واصخت السمع وجاء الصوت عاليا «فلان بن فلان الفلاني»، لم اكن انا المطلوب ولا واحدا اعرفه ثم اعقب بصوت آخر «فلان الفلاني» فتعجبت من ان المنادي قد ذكر الاسم واللقب فقط دون الاسم الثلاثي، فقلت، الا يحتمل ان تتشابه الاسماء، وتختلط ويروح انسان بريء ضحية آخر، وهذا ما حصل فعلا فقد تم اعدام بعض، بدل بعض لتشابه الاسماء، ولم يكتشف هذا الخطأ الا بعد فوات الاوان. ونادى المنادي على العدد المطلوب كما فعل في كل مرة واقتيدوا من زنزانتهم واخرجوا من البوابة الحديدية ورحت انتظر ومر الوقت ثقيلا، وانا اترقب صوت الرصاص، ولم يطل انتظاري فها هو الرصاص يلعلع ويزمجر دقائق ثم ينقطع. وانتظرت الصوت الكريه يقول «عبارته المأثورة» ولم يطل انتظاري ايضا فها هو يصيح: «وهذه وجبة اخرى من الخونة تذهب الى مزبلة التاريخ»، ثم يعقبها بقهقهة ويخطر ببسطاله في الدهليز شأنه مع كل وجبة يتم اعدامها، ولم يطل الانتظار ايضا فها هو جرس التلفون يرن من جديد، وداخلني شعور اكيد ان اسمي سيكون مع هذا الرنين لا محالة فقد تأخر دوري اكثر من اللازم، ولا بد ان يجيء، وها هو آت مع هذا الرنين، ورفعت السماعة وتكررت العبارة المألوفة «نعم سيدي» حتى انني قلتها قبل ان ينطق بها الصوت، ثم وضعت السماعة وبدأ الصوت ينادي الاسماء وذكر الاسم الاول، وذكر الاسم الثاني، فقلت انا الثالث، فقلت الرابع، ومر الخامس، حتى الاسم السابع، وانتهى النداء”
.
ساحة التنفيذ كانت في حديقة قصر النهاية وهي نفس الحديقة التي اعدمت فيها العائلة المالكة ووصفها أحمد الحبوبي قائلاً " ساحة الاعدامات هذه حديقة كبيرة تقع امام مدخل قصر النهاية يغطيها العشب، مستطيلة، يبلغ طولها نحو سبعين متراً وعرضها اربعين متراً، اخترق طابورنا الحديقة ورأيت كما رأى الجميع اجساماً متناثرة تفترش الارض، هي جثث الوجبة الاخيرة التي تم اعدامها منذ حين، حرصت ان اتمعن جيداً في هذه الجثث وكأني اخاطبها مباشرة، وقد كانت لأشخاص بأعمار مختلفة، وبملابس متباينة، يفترشون الحديقة بأوضاع مختلفة، فهذه جثة جندي يرتدي ملابس الجنود وبرجله بسطاله وينام على ظهره وقد اتجه بوجهه الى السماء، كان وجهه واضحاً وغير مغطى بعصابة، وبالقرب من هذا الجندي تضطجع جثة على وجهها، وكان صاحبها يلبس الدشداشة وحافي القدمين، وهذه جثة تبعد عن الجثتين قليلاً لشخص ينام على جنبه، متكوراً وقد ادخل رجليه في بطنه، وضم يديه اليهما، وادخل رأسه في صدره، وتلك جثة اخرى تبعد امتاراً بوضع آخر فكل ينام او يموت على الجنب الذي يريحه، وهذا امر لا دخل للجلادين فيه، فالجلاد يطلق الرصاص على الضحية، ثم يترك له حرية اختيار الوضع الذي سيلاقي ربه فيه. لم اكن وحدي الذي ينظر وبتمعن في الضحايا، فقد فعل ذلك كل الطابور، وكان الحارس الذي يسير في مقدمة الطابور قد تمهل بمشيته وابطأ ليعطينا وقتاً اطول لنملي عيوننا من هذا المنظر، ونستوعبه لغرض واضح” .
ذكر أحمد الحبوبي أيضاً أن البعض اعدم بوسائل أخرى عدا الشنق والرصاص فعن اعدام جابر حسن حداد محافظ كربلاء الاسبق قال
"احضروه امامهم، وبدأوا يعذبونه بالخناجر، والسكاكين، ويتلذذون بطعنه في اماكن مختلفة من جسمه ويتنافسون على قطع اذنه، او بقر بطنه، وكان الرجل صابرا ويشتمهم، ويقول لهم (إني شهيد، ويشرفني ان شهادتي على ايديكم) الى ان لفظ انفاسه الاخيرة، رحمه الله بين ايدي الزبانية ."
وعن شخصية رئيس المحكمة الخاصة طه الجزراوي كتب جواد هاشم
" طه الجزراوي ـ المعروف بطه ياسين رمضان ـ شخصية غريبة الأطوار: خليط من وقاحة وغرور وإحساس داخلي بالضآلة والدونية. فهذه الشخصية المجهولة الأصل والديانة والمستوى العلمي، والتي بدأت من القاع لتتسنم، في غفلة من الدهر، أرفع المناصب الرسمية، كانت كل مؤهلاتها رتبة نائب ضابط في الجيش، وانتماء إلى حزب يتلفع بالجلباب القومي العربي، برغم أنها تنتمي في الظاهر الى القومية الكردية. وعلى العكس من صدام حسين الذي يحاول أن يبدو دائم الابتسام، ظل الجزراوي محافظاً على عبوسه وتجهمه حتى في المناسبات السعيدة، ولم يذكر له معارفه والذين اقتربوا منه ما ينم عن دماثة خلق أو طيب معشر، بل كان يزيدهم نفوراً كلما حاولوا الاقتراب أكثر بسبب غلظة طباعه وميوله العدوانية. باختصار، افتقد الجزراوي الأواصر والعلاقات الطبيعية، مثلما فقد القاعدة الشعبية التي يفترض أن تكون ملازمة للقائد السياسي والحزبي برغم كل المناصب التي تبوأها، وطول المدة التي أمضاها في هذه المناصب.

ولأن العمل الحزبي السري القائم على حبك الدسائس والمؤامرات يحتاج إلى مثل هذه الشخصية الغامضة، فقد استطاع الجزراوي تسلق سلم حزب البعث الذي لم يكن عدد أعضائه قبل انقلاب تموز ١٩٦٨ يتجاوز عدد طلاب مدرسة ابتدائية، وليصبح أحد قادته الكبار. وعندما تسلم الحزب السلطة، كان الجزراوي قد ضمن عضويته في القيادة القطرية ومجلس قيادة الثورة. ولم يكتف الجزراوي بهذه المناصب، بل كان يتدخل ـ من خلال موقعه القيادي ـ في شؤون الوزارات الأخرى، حتى تسنى له استلام منصب وزير الصناعة. ولم تمض فترة قصيرة على استيزاره، حتى نشر كتاباً حول الإدارة الصناعية!
وحين كان يتوجه إلى الوزارة كانت ترافقه ثلة من الحرس مدجَّجة بالسلاح، ليضفي على نفسه هالة من الأهمية لا تقل عن الهالة التي يتمتع بها البكر وصدام. وعندما أُعلن عن اكتشاف مؤامرة عبد الغني الراوي، شكلت الحكومة محكمة خاصة أناطت رئاستها بالجزراوي. وقد أصدرت هذه المحكمة، خلال يومين فقط، أحكاماً بالإعدام على أكثر من أربعين شخصاً، ونُفذت الأحكام بإشرافه. وكان يتبجح كيف أنه نفذ الحكم بفلان وفلان، وكيف أن فلاناً بكى، وفلاناً توسَّل طالباً الرحمة والرأفة، وكيف أنه لم يبال بتلك التوسلات. شخصية غريبة، مريضة حتماً، لا يضحك أبداً، ولا يعرف روح النكتة أو معناها. كان مقرَّباً من البكر، وكان صدام يعرف نقاط ضعفه. كان يتصرف كالذئب في وزارته وفي علاقاته العامة. ولكنه ينقلب إلى حمل وديع عندما يخاطب صدام. عند عملي مستشاراً في مجلس قيادة الثورة، كنت مرتبطاً وظيفياً بصدام حسين، وكنت أطّلع على بعض الرسائل والمذكرات التي يرفعها الجزراوي إلى صدام. كانت مليئة بعبارات الضعف والخنوع، ومكتوبة بلغة عربية تفتقر إلى أبسط قواعد الإملاء، ناهيك بقواعد اللغة العربية نفسها".
وبعد اكمال الجزراوي اصدار أحكام الأعدام زاره جواد هاشم فقال
"كانت مفاجأتي أكبر وأعظم، عندما زرت رئيس المحكمة الخاصة التي أصدرت حكم الإعدام، وهو طه الجزراوي.
فقد وصف الجزراوي والابتسامة العريضة تغطي وجهه، كيف أن حسن قال لهم في التحقيق ما جرى بينه وبيني وعن تعاونه مع الأجهزة المختصة في نصب اللاقطات في داره للكشف عن المتآمرين، وكيف أن صدام أرسل إليه هدية بمأتي دينار.
واستطرد طه الجزراوي قائلاً: كل ذلك لم يشفع له عندنا. واستمر ضاحكاً وهو يوجه كلامه إلي قائلاً: احمدِ الله أننا لم نعتقلك أنت كذلك. وكان يبدو أنه فخور، بل مغتبط بما فعل. صحيح أن حسن الخفاف أعلمني بالتآمر، ولكن مع ذلك كانت هناك بعض الأمور تبعث على التساؤل: تُرى، هل كانت هنالك مؤامرة فعلاً، وبالحجم الذي أُعلن عنه، أم أنها كانت بداية لتصفيات، أو محاولة من تلك المحاولات التي كثيراً ما أقدمت عليها القيادة بهدف تخويف الشعب؟ وإذا كانت المؤامرة حقيقية وبهذه الخطورة، فلماذا التسرع في إصدار الأحكام وتنفيذها من دون إعلان تفاصيل المؤامرة على الشعب؟ وبعد يوم من إصدار تلك الأحكام، صرح طه الجزراوي، متلذذاً: لقد أكملت المهمة التي كلفني بها مجلس قيادة الثورة، وقد كانت القيادة تعلم بالمؤامرة قبل سنة من سحقها، لكنها فضلت الانتظار وجمع المعلومات والوثائق الثبوتية لتسهيل المحاكمة والإسراع بها حتى لا يكسب المتآمرون عطف الجماهير في حال تم القبض عليهم مبكراً. وكأني بالجزراوي كان يريد القول ضمناً، إن الجماهير كانت تنتظر بفارع الصبر نجاح المؤامرة، وربما كانت تنجح لولا إسراعه بتنفيذ أحكام الإعدام."
ساد الأعتقاد لعدة عقود أن المؤامرة كانت بمجملها من صناعة السلطة الى أن نشرت جريدة الحياة أجزاء من مفكرة عبد الرزاق النايف وعبد الغني الراوي ،وهما وان اقرا بصحة المؤامرة فقد كانت روايتهما للحدث متناقضة فقد ورد في مفكرة عبدالغني الراوي
"كانت خطة عبدالرزاق النايف ويسنده سعد صالح جبر بأنه يكفي أن نشتري ذمة العقيد الركن محمد علي سعيد (مدير الحركات العسكرية وقائد القوات المدرعة وقوات بغداد وعضو مجلس قيادة الثورة في الوقت نفسه)، ثم يجري الانقلاب داخل البعثيين لمصلحتنا. أما نحن فنركب الطائرة من طهران إلى بغداد، فإذا تفضلوا علينا باعطائنا مسؤولية أية وزارة، فهذا فضل منهم وإلا فالعودة إلى بيوتنا سالمين.ثانياً - وكان رأيي عكس ذلك تماماً حيث شرحت بالتفصيل بأن احتمال نجاح أي انقلاب ضد البعثيين لا يتجاوز ٥ في المئة، وبأن الخطة الأصح هي في ذهابنا إلى شمال العراق مع الثوار الأكراد والبارزانيين، ومن هناك نجري الاتصال بالضباط من أوامر الوحدات والتشكيلات بل وحتى الوحدات الفرعية (أمراء الفصائل والسرايا) ثم بتوقيت موحد نسيطر على القطاعات العسكرية في شمال العراق ووسطه وجنوبه، خصوصاً تلك القطعات القريبة من الحدود، ثم نزحف بها (وفقاً للخطة) إلى بغداد، وفي الوقت نفسه نشعل الثورة بالعشائر المحيطة ببغداد وجنوبها وشمالها، وفي الوقت ذاته تزحف فصائل الأنصار للثورة الكردية البارزانية وفقاً لخطة موحدة مع زحف قوات الجيش العراقي. وهذا لا يمنع من شراء ذمة محمد علي سعيد ليقوم بانقلاب داخل قيادة حكم "البعث" في بغداد، وأن يجري توقيت هذا الانقلاب ضمن الخطة العامة، حيث ان اعتماد الخطة هي على زحفنا بالقطعات العسكرية وفصائل الأنصار وبالعشائر، وسواء نجح محمد علي سعيد بانقلابه أم فشل، فإن زحفنا من الشمال والجنوب مع قيام الثورات للعشائر المحيطة ببغداد وفي الفرات الأسفل وفي الحويجة (كركوك) وفي الجزيرة (ما بين دجلة والفرات) هو الذي سيقرر نجاحنا في سحق حكام "البعث" والانتصار عليهم بإذن الله تعالى.لقد أيّد الشاه خطتي بعد مناقشة استمرت ساعتين وخمساً وعشرين دقيقة "
رغم ذلك يبدو أن الأيرانيين لم يصغوا له واختاروا الخطة التي كانت حسب الرواي خطة عبد الرزاق النايف فقد ذكر بعد اعلان السلطة كشف الموامرة أن "المسؤول الايراني الذي كان في بغداد (مستشار السفارة الايرانية ببغداد) زارنا واخبرنا بأنهم في ٧/١/١٩٧٠ سلّموا "الكافر" محمد علي سعيد (") الدفعة الاولى من رشوته (٢٥ ألف دينار) مع تسجيل صوتي لكيفية تسليمه المبلغ واتفاقهم معه على دفع القسط الثاني بعد قيامه بانقلابه المزعوم. وان الموشار اليه طلب من الايرانيين اسماء اخواننا وبعد مراجعته طهران اعطوه الاسماء بتاريخ ١٣/١/١٩٧٠ وذلك بعد ان اعطاهم خطته وموجزها ان يجمع كل ضباط صف الدروع في قاعة بحجة القائه محاضرة عليهم ثم يلقي القبض على الخطرين منهم ويستفيد الآخرون من تحريك القطاعات المدرعة وانه بحاجة الى جماعة مدنيين في الشوارع ليقفوا ضد المظاهرات البعثية التي قد تخرج الى الشوارع وان الخطة كان مؤملاً ان يشرع بتنفيذها يوم ١٧/١/١٩٧٠ ثم تأجلت الى يوم ١٩/١/ ١٩٧٠ .كما اخبرني عباس آزرمي بأن اسماء اخواننا في العراق كان قد ارسلها عبدالرزاق النايف من لندن برسالة منه الى احمد حسن البكر!!
اولاً. لقد عرف البعثيون معظم اسماء اخواننا عن طريق عبدالرزاق النايف وعن طريق المسؤول الايراني ولكن كيف عرفاها؟ لا يعرفها احد غيرى باستثناء طه جابر ولم يسألني احد عن اسمائهم ولا عن اي شيء طيلة مكوثي في ايران".
أما عبد الرازق النايف والذي ادعى الراوي أنه كان صاحب خطة التعاون مع محمد علي سعيد فيدون قصة مغايرة "في أوائل أيلول (سبتمبر) ١٩٦٩، اتصل بنا العقيد الركن محمد علي سعيد والذي كان يشغل منصب مدير الحركات في الجيش العراقي وهو من أقطاب البعث المحيطين بأحمد حسن البكر وطلب التعاون معنا وأبدى تذمره من حكم العصابات البعثي في بغداد وارسل خاله أو عمه، لا أذكر بالضبط، لمفاتحة أحد أعواننا في العراق ورتب ان يتم لقاء بيني وبينه في لندن لأنه سيغادر مع رئيس أركان الجيش في مهمة خاصة ومن هناك سيتركه لأجل المعالجة الطبية... ووضع كلمة سر أقولها أنا للملحق العسكري العراقي بالتليفون وهذا يعني أنا أريد التحدث معه وأحدد مكان اللقاء فكانت كلمة السر "أنا علاء أريد الأخ أبو علاء".طبعاً جهاز استخبارات عصابات البعث أعد في لندن كل التدابير اللازمة سواء لخطفي أو القتل في حال عدم نجاحهم في الخطف. وفعلاً وصلت لندن يوم ١٢ أيلول ١٩٦٩ لأقف على نية محمد علي سعيد... فوضعت خطة سريعة لاستطلاع الموقف. طلبت من ملحقنا العسكري العقيد الركن سعدون حلمي والذي كان من أعواني في هذا الوقت وحضر الى الفندق الذي أقيم فيه الساعة السابعة صباحاً واعطيته موجزاً عن اسلوب اتصال محمد علي سعيد. أوضحت له انني أشك في انه يريد التعاون الفعلي وربما هذه مؤامرة جديدة مسرحها لندن. ايدني فوراً وقال لي لا تقابل محمد علي سعيد مطلقاً والأفضل ان تعود الى شمال العراق لأن مدير الاستخبارات هنا وعدداً من اتباعه وعدداً آخر من اعضاء الحزب جميعهم حضروا لهذه المهمة.وكان قرارنا ان نترك الفندق فوراً، واستمر محمد علي سعيد مرابطاً في
غرفة العقيد الركن سعدون حلمي أياماً في انتظار التليفون لتنظيم الاجتماع واللقاء، ولكنه لم يجد نتيجة واستمريت اسأل سعدون حلمي عن الموقف فكان جوابه بالشفرة بيننا "الفخ منصوب والصيد غائب".
ويتهم عبد الرزاق النايف عبد الغني الرواي بأنه كان وراء تسليم السلطات العراقية أسماء الضباط المتعاونين معهم فقد "قال لمقربين منه ان الراوي ألح عليه لابلاغه اسماء مجموعة من ٤٣ ضابطاً كانوا على استعداد للمشاركة في المحاولة وقد أعدم ٤٠ منهم. لا أحد يستطيع، حتى الساعة على الأقل، الجزم بطريقة حصول السلطة على الاسماء.

اصدرت المحكمة الخاصة برئاسة طه الجزراوي وعضوية ناظم كزار وعلي رضا أحكام الأعدام يوم ٢١ كانون الثاني ١٩٧٠ ونُفذت في اليوم نفسه، وحُكم بإعدام ١٨ عسكرياً و ٤ مدنيين. وفي اليوم التالي أُعدم ٨ عسكريين و ٤ مدنيين. وهكذا بلغ مجموع الذين أُعدموا ٣٤ شخصاً، من ضمنهم اللواء رشيد مصلح التكريتي والعقيد مدحت الحاج سري.
لم يمثل أعدام حسن الخفاف "الخطأ الوحيد" في اعدام تلك المجموعة فقد اعدم أشخاص آخرين من دون معرفة لدورهم وان كان لهم أصلاً أي دور في المؤامرة , وهي نتيجة طبيعية لكون السلطة بدت وكأنها في سباق مع الزمن لاصدار وتنفيذ أحكام الأعدام.
فقد ذكر الحبوبي هذه القصة «انت الرائد الركن عبدالستار عبدالجبار العبودي؟»
فأجابه الضابط «نعم»
ثم سأله «ما دورك في المؤامرة»
الضابط «يا مؤامرة ويا دور الي بيهه.. يا جماعة آني ضابط قومي وحدوي» ثم اضاف «آني كان بودي لو كنت اعرف بالمؤامرة»
فأجابه الشاب باستنكار وبصوت عال «إشلون بودك تعرف المؤامرة»
فأجابه الضابط عبدالستار «نعم كان بودي اعرف بيهه حتى أبادر الى اعلام السلطات المسؤولة وفضحها.. ثم اية علاقة تربطني بجماعة مثل صالح السامرائي ورشيد الجنابي.. آني شاب قومي واشتركت بحركة عارف عبدالرزاق وبعد ثورة ١٧ تموز التقيت بالسيد الرئيس البكر بالقصر الجمهوري وليس بيننا شيء، وقد نقلني السيد الرئيس الى كركوك، وانا كنت هناك منذ عشرة ايام جيء بي الى بغداد وأودعت في سجن رقم ١ في معسكر الرشيد، وقبل ساعات قليلة جيء بي الى هنا ولا اعلم السبب فأية مؤامرة انا مشترك بيهه» كان يتكلم بثقة وثبات
فسأله الشاب «ولماذا جاءوا بك من كركوك ووضعوك بالسجن؟»
فأجابه عبدالستار «هاي قصة ثانية» اجابه الشاب
«نريد ان نعرفها. احكيها. انا مسؤول، ويجب ان تجيب على سؤالي؟»
كنا وجميع من في الغرفة نتابع هذا الحوار باهتمام حتى الحراس قد أنصتوا ايضا، اجاب عبدالستار «قصة اعتقالي في كركوك وجلبي الى هنا هو ان امراً ادارياً كان قد صدر من وزارة الدفاع وعمم على جميع الوحدات ومنها الوحدة التي كنت فيها، وقد علقت بخط يدي على الورقة التي تحمل هذا الامر بعبارة «هذا أمر سخيف»، ويبدو أن تعليقي هذا على أمر وزارة الدفاع قد بلغ أسماع المسؤولين في بغداد، وعندما جاء السيد صدام حسين إلى كركوك مقر وحدتي في طريقه لملاقاة الملا مصطفى البرزاني، سأل آمر الوحدة عن الضابط الذي علق على الأمر الوزاري بعبارة أمر سخيف، فجيء بي إليه فما كان منه إلا أن مد يده إلى كتفي ونزع الرتبة العسكرية وطلب من الآمر إيداعي التوقيف لحين عودته، وعندما عاد من الشمال اصطحبني معه إلى بغداد، وأودعت سجن رقم ١ منذ عشرة أيام كما أخبرتكم، والآن جاءوا بي إلى هنا.. وهذه كل الحكاية.. يا جماعة صدقوني والسيد صدام حسين موجود ويمكنكم أن تسألوه.. فلا مؤامرة ولا يحزنون».
انتهت رواية عبدالستار وكان يتكلم كما قلت بثقة واطمئنان حتى أن حديثه قد أثر في جميع السامعين بمن فيهم الحراس، حيث لاذوا بالصمت، وهنا بادره الشاب بسؤال استنكاري «وكيف تعلق على الأمر بكلمة سخيف ألا يعتبر هذا تحدياً لرؤسائك؟»
فأجابه عبدالستار «أعتذر عن هذا، واعترف أني أخطأت، ومستعد للمحاكمة على غلطتي هذه، أما المؤامرة فأعوذ بالله ومع من أتآمر؟ ولويش».
فأجابه الشاب وقد وضع ورقة فلسكاب بيضاء أمامه على المكتب مع قلم رصاص قائلا «اكتب» فسأله عبدالستار «ماذا أكتب؟» فقال له «اكتب عن دورك في المؤامرة القذرة»
فأجابه عبدالستار بضيق «مو حكيت لك الحكاية من أولها إلى آخرها»
فأجابه الشاب «أنا ما أعرف، اكتب عن كل الذي تريد تكتب عنه، هاي أوراق وهذا قلم اكتب ما تشاء»
ثم استدار خارجا من الغرفة وترك عبدالستار مع الأوراق والقلم في حيرة.. مرت لحظات صمت وأنا أرقب عبدالستار، مشفقا على حاله، وأخذ يحرك رأسه يمنة ويسرة ثم تناول القلم، وكتب سطرين ثم رمى القلم، والتفت فجأة نحوي، نظر إلي نظرة طويلة، وعميقة، بدا لي أنه يعرفني، وكأنه يستنجد طالبا المعونة لإيجاد مخرج له من هذه الورطة، ثم تمتم «ماذا أكتب؟»،
فابتسمت له مشجعا قائلا له بصوت خفيض «اكتب يا أخي قصتك كما هي واتكل على الله»،
ولم أزد، فأنا أعرف أني لا استطيع إنجاده أو مساعدته فمصيرنا واحد، فان كانت جريرته تعليقا على أمر إداري، فالله وحده يعلم ما هي جريرتي، عاد وانكب على الورق وراح يكتب ويكتب وملأ الورقة بوجهيها، وبعد ان فرغ وضع القلم بجانب الورق وأراح جسمه إلى الوراء مسندا ظهره إلى الكرسي، وأخذ نفسا عميقا وقال بصوت عال مسموع «يا رب» .
مرت ساعة على خروج الشاب من الغرفة، ونحن في صمت ننتظر المجهول، وعاد الشاب الى الغرفة، وتوجه الى عبدالستار وتناول الورقة، وعاد يقرأ فيها وبعدها سأله «هذا كل ما عندك؟»
فقال له عبدالستار: نعم
فقال له الشاب «وقع هنا» واشار له على الورقة، فوقع عبدالستار، فأخذ منه الورقة والقلم، وخرج من الغرفة، ومرت ربع ساعة تقريبا، واذا بنفس الشاب يقف بباب الغرفة ويؤشر بيده الى عبدالستار
قائلا له «تفضل»
فما كان من عبدالستار الا ان نهض والتقط سدارته من على المكتب، وخرج مسرعا وراء الشاب الذي سبقه، وغابا عن الانظار، وبعد لحظات دخل الغرفة شاب يحمل بيده ورقة صغيرة خمنت ان فيها اسماء وجبة جديدة واخذ الشاب يقرأ الاسماء وعيني معلقة بفمه، كأني اترقب سماع اسمي، وكان في القائمة اسم كل من الضابطين الطيارين انور الجميلي وصلاح الغبان، وكنت اعرفهما، قرأ سبعة او ثمانية اسماء ثم خرج من الغرفة، التفت الى ورائي حيث النافذة المطلة على ساحة الاعدامات اختلس النظر من خلال زجاجها لأتبين ما يجري فيها فقد سمعت جلبة وضوضاء تحت النافذة وبصعوبة رأيت بضعة افراد لا يتعدى عددهم الثمانية تحبط بهم مجموعة كبيرة من الشباب المسلح يسوقونهم سوقا الى الامام ويدفعونهم، حتى لا يتخلف احد او يتقاعس، منظر يشبه تماما منظر جزار يسوق قطيعا الى المذبح، فالمنظران متماثلان، والفرق ان هناك قطيعا من الغنم وهنا «قطيع من البشر»، هناك جزار غنم، وهنا جزار بشر، والمجزور هناك اغنام احل الله ذبحها والمجزور هنا انسان حرم الله دمه، سبعة او ثمانية اشخاص بأزياء مختلفة يسيرون داخل حلقة من الشباب المسلح بالرشاشات والمسدسات يدفعونهم الى الحديقة..
ولم اعد اتبين المنظر من شدة الظلام، ومرت لحظات لم اسمع فيها سوى دقات قلبي تضرب بعنف، وفجأة انطلق الرصاص زخات كأنها المطر، ورأيت شبحا يجري في الحديقة هنا وهناك، يقوم ويقع، كأنه هارب من نار، ولكن النار تلاحقه ويصرعه الرصاص الذي استمر يلعلع دقائق، ثم توقف، وبعد لحظات رأيت ثلاثة شبان يتقدمون نحو الحديقة وقد شهر كل منهم مسدسا ثم سمعت اطلاق رصاصات حسبتها رصاصات الرحمة تطلق على رأس الضحية وتخمد انفاسه، وجدت نفسي اتمتم بعبارة «لقد تحرروا من العذاب والالم وصعدت ارواحهم الى بارئها» اشحت بوجهي عن النافذة وعدت الى جو الغرفة واذا بصوت الراديو يعلن اسماء الوجبة التي جزرت قبل قليل يقول
«ان الحكم قد نفذ منذ قليل في مجرمين وهذا جزاء كل خائن متآمر والى مزبلة التاريخ» والى آخر المعزوفة واخذ المذيع يعدد اسماء الذين اعدموا وذكر اسم المرحوم الرائد الركن عبدالستار عبدالجبار العبودي، واذ بأحد الشباب المكلفين بحراستنا يقول وباستغراب «هذا هو الضابط اللي كان قاعد هنا؟»
اجابه راهي «اي اغاتي هو»
فما كان منه الا ان مط شفته السفلى وهز رأسه علامة الاستغراب والاستنكار وتفوه بكلمة «عجيب» .
كذلك لم يعرف دور راهي الحاج عبدالواحد سكر نجل عبدالواحد آل سكر أحد قادة ثورة العشرين في تلك المؤامرة . وربما أعدم " تخويفاً لكل القبائل والعشائر، وتذكيراً بالمصير نفسه" .سلمت جثة راهي العبدالواحد آل سكر بعد إعدامه صعقا بالتيار الكهربائي، مع التأكيد بعدم وجود أي رجل في تشييعه ودفنه، لذا تولت النساء من آل فتله وغيرها من العشائر تشييع جنازته فدخلت النجف مئات من النسوة متشحات بالسواد ويرتفع صراخهن إلى عنان السماء يحملن جثمان راهي وقمن بدفنه نيابة عن الرجال وحسب رغبة الحكومة وتهديدها".
وايضاً نظام الدين عارف ,لم يذكر بالضبط ماهو دوره والملفت للنظر عدم ذكر لأسمه في فصل خصص لذكر تلك المحاولة في كتاب برزان التكريتي " محاولات اغتيال صدام حسين". من الصعب معرفة صحة ما ذكره البيان الرسمي من أن الأجتماعات عقدت أيضاً في دار الدكتورة فاطمة الخرسان فهي وان حكم عليها بالسجن الموبد فقد أطلق سراحها بعد ١١ شهر لكون سجنها كان أيضاً خطأ كما ذكرت عائلتها للدكتور صاحب الحكيم واورده في كتابه " بلد المقابر الجماعية". لكنها اغتيلت في عيادتها في عام ١٩٧٢ واشاعت السلطة أن القاتل كان في حالة غضب فقتلها وانتحر في حين تعتقد عائلتها أن السلطة كانت وراء عملية الاغتيال.
أتهم البعثيون عبد الكريم قاسم بتصفية خصومه السياسيين واستهتاره بالقضاء واستخدامه المحاكم العسكرية كمنبرلاعلان الأحكام المقررة مسبقاً .
لكنهم في المحكمة الخاصة في قصر النهاية لم يكونوا أفضل منه , فتصرفوا وكأنهم ملكوا حق امتلاك كل السلطات واستخفوا بالقضاء وكان لهم حصة كبيرة في تأصل العنف في العقل السياسي العراقي.
وبفضل ثورييي ذلك الزمن تحولت ليالي العراق كتلك الليلة معبقة برائحة البارود والدم والموت.