قمع الانتفاضة في البصرة
"تبلغون المعنيين .. عضو القيادة حاكم عسكري يمتلك كل صلاحيات الحاكم. اليطلع من الطريق يجلطوه. والطريق هو التردد.. التردد يعزل. الجبن والخيانة ما امامهم غير القتل.
لا تنتظرون اوامرلان انتو تره هم راح تكونون مسؤولين امامنا بعد ما تتحمل تره الشغلة. النوبة نكول ما ندري..يكول مدير الشرطة ما ادري شلون شرطي مو كافين..تسليحي مو زين... المحافظية الكم لازم…واحد يطلع هي هي..لازم تصمطوه وتصمطوم كل اللي وياه. … حواليه…ومن ينهزمون. تلحكوهم يعني لبيوتهم..اطلعوهم تكتلوههم باب الحوش".
صدام حسين في اجتماع عقد أثناء الانتفاضة يأمر اتباعه بكيفية التعامل مع المتظاهرين.
كما أشرنا سابقاً وحسب رواية الدكتور قاسم البريسم في كتاب الشرارة والرماد "أصبحت أغلب مناطق البصرة تحت سيطرة المنتفضين بعد الساعة الثانية عشر من يوم ١٩٩١/٣/٢ وخاصة تلك المناطق ذات الكثافة السكانية ويشملها المركز، وبعد أن سقطت مؤسسات النظام المهمة كالمخابرات ومديرية الأمن، ودوائر الشرطة والمحافظة وغيرها. ولم تبق إلا بعض الجيوب في داخل المدينة والشوارع الرئيسية خارج المدينة، لأن كثافة الجيش فيها لا تسمح لمثل هذا. وقد كانت هذه الشوارع والبؤر عصب الحياة التي بدأ النظام يعيد تشكيل نفسه فيها. حيث أصبحت فيما بعد وسيلة حركة علي حسن المجيد والقطعات العسكرية التي كانت تحت امرته، وهي المناطق التي لم يؤسس فيها المنتفضون نقاط قوة لهم.
بدأ المنتفضون في تشكيل نقاط سيطرة في الشوارع الرئيسية في داخل البصرة وخارجها، إلا أن العدد الذي نهض بهذه المهمة كان قليلاً مقارنة باعداد اليوم الاول، فقد تقلص عدد المشاركين وحتى الداعمين للانتفاضة بعد أيامها الأولى، وكأن مهمة الانتفاضة قد انتهت وان هدفها قد تحقق.
وقد ازداد العدد بالتقلص بشكل ملحوظ، بعد اتفاق خيمة صفوان وظهور السمتيات في الاجواء، وعودة الكثير من العسكريين ممن شاركوا في الانتفاضة في يومها الأول الى وحداتهم، وشعور الكثير من المنتفضين بالاحباط من غياب القيادة والتنظيم، ودعم الرموز الدينية المؤمل لها. حتى اذا أنتهى الأسبوع الاول من عمر الانتفاضة لم يبق في صفوفها إلا الحقيقيين الذين صمموا على المقاومة حتى الموت.
كانت أسلحة المنتفضين خفيفة واغلبها من الرشاشات والرمانات اليدوية والقاذفات RBJ7 وقد افادهم هذا السلاح الأخير في الوقوف بوجه زحف الدبابات وتدميرها، كما ضمت بعض مواقع المنتفضين بعض الرباعيات ورشاشات PKC، اضافة الى بعض الدبابات التي كان يعوزها السواق، والتي لم تستخدم أغلبها في قتال الشوارع.
تشكلت مواقع تجمع للمقاتلين في مناطق البصرة الرئيسية في المركز وخارجه وكانت تتمع بقدر بسيط من القيادة والتنظيم الخاصين بكل منطقة، فلم تكن هناك قيادة موحدة لها، أو خطة عسكرية منظمة لمواجهة الجيش، بالرغم من ذلك فقد لعبة هذه التجمعات دوراً فعالاً في الدفاع عن الانتفاضة. ومن تلك التجمعات في مركز البصرة حسينية التميمية والخندق. كما برزت نقطة مهمة للمقاومة تركزت في البصرة القديمة عند نقطة المحكمة. وقد برزت نقطة مقاومة في شارع ١٤ تموز ( جامع الكواز) وقد قاتل المنتفضون في هذه النقطة الجيش بصورة عظيمة. وفي منطقة الجمهورية أوجد المقاتلون نقطة لهم، كان لها دوراً عظيم في المقاومة. وفي الطويسة والجسر الأحمر والحكيمية كانت لهم نقط للمقاومة.
أما في الحيانية فكانت كلها نقاط مقاومة فقد انشأ المقاتلون لهم في كل شارع نقاطاً للمقاومة وسطر أهلها ملاحم البطولة والتضحية فكانت المرأة فيها تحمل الرشاشة وتقاتل، وتهاجم الدبابات بالرمانات اليدوية. وقد سجلت المرأة في الحيانية بالذات، والبصرة بشكل عام حضوراً عظيماً في الانتفاضة. ناهيك عن شبابها ورجالها وحتى أطفالها. وقد ظلت عصية على الجيش، ولولا البطش والدمار الذي كان ينتهجه علي حسن المجيد ضدها لما استسلمت.
وفي قضاء أبي الخصيب، كانت مقاومة النقاط التي أسسها المنتفضون في كل مناطق أبي الخصيب ( حمدان، أبو الفلوس، مهيجران) شديدة.
أما مناطق المقاومة خارج مركز محافظة البصرة، فهي كثيرة ولا يمكن احصاوها واشتهرت شيوخ العشائر وعوائل السادة بالدفاع عن الانتفاضة بوجه الجيش.
بعد اتفاق خيمة سفوان المذلة ظهرت أولى مظاهر العد التنازلي في حياة الانتفاضة، عندما بدأت المروحيات بالتحليق في أجواء البصرة. كما بدأ البعثيون الذين هربوا وتنكروا بزي النساء يعودون الى مقراتهم الحزبية وعاد أغلب الجنود والضباط الى وحداتهم العسكرية بعد فرارهم منها أثناء عاصفة الصحراء وانسحاب الجيش.
شكل علي حسن المجيد المكلف في ابادة المنتفضين، قواعد ومراكز قوة له في المناطق التي كانت خارج سيطرة المنتفضين وتتركز في ساحة سعد، وعلى الطرق الخارجية التي تتفرع منها، و تؤدي الى مركز البصرة. فقد اتخذ من مركز دراسات الخليج العربي في جامعة البصرة/ الكليات الأنسانية ، في ساحة سعد مقراً له، ولقادة الحزب والجيش أمثال عبد الغني عبد الغفور ومحافظ البصرة عبدالله طلب، وثابت الدوري ( عضو فرع البصرة) ومدير الأمن عميد محمود وغيرهم. وقد هيأ لهم هذا المكان الأمان بسبب تواجد القطعات العسكرية الكثيفة في ساحة سعد نفسها، والقطعات التي بدأت تتقاطر عليها.
وقد بدأ علي حسن المجيد يحركها وينظم هجومها بقيادة اللواء الركن عبد الرحمن الدوري، وقائد قوات بغداد لطيف محل حمود، الذي أصبح محافظاً للبصرة فيما بعد،
ويوجه قادة الحرس الجمهوري وقطاعتهم نحو مناطق الثوار. كما وفرت هذه القاعدة لعلي حسن المجيد فرصة التحرك والاتصال بالمقرات الأخرى التي اعتمدها في متنزه الخورة. كما استطاع بعد تعاظم قوة الحرس الجمهوري المنسحب من ايجاد موطىء قدم رئيسي في قلب البصرة، في فندق حمدان بعد أن وصلت اليه الدبابات عبر الطريق الخارجي الذي يربط ساحة سعد بالمتنزه.
وحين شعر علي حسن المجيد بأن موقعه في متنزه الخورة عرضة لهجوم الثوار بين فترة واخرى من قواعدهم في شارع الجزائر، ترك المكان بعد قتال المنتفضين واستقر في الجامعة وفي معهد النفط الذي اتخذه فيما بعد مقراً له، ومنطلقاً لتحركاته ضد الانتفاضة خاصة في مناطق أبي الخصيب.وهذا المقر يقع أيضاً على الطريق الرئيسي الخارجي، الذي يربط ساحة سعد - الفاو- أبو الخصيب ويقع خارج ساحة المنتفضين ويبعد أكثر من عشرين كيلو متراً عن ساحة سعد.
إذن توفرت لعلي حسن المجيد ظروفاً ملائمة في هذه القواعد البعيدة عن خطر المنتفضين والمحمية بالقطعات العسكرية الكبيرة كي يلم أشتات القوات، وينظم الجيش استعداداً للانقضاض على الانتفاضة، ومصادر قوتها، وتواجدها.
فبعد أن هدأت عاصفة يومها الأول انكشفت صورتها وتوضحت معالم رموزها للنظام. وقد ساهمت أجهزة الأمن والمخابرات التي اندست فيها في كشف أوراقها وتقدير قوتها.
وقد صبت كل هذه المعلومات في تخطيط علي حسن المجيد للقضاء عليها ومعرفة مراكز ثقلها. يضاف الى ذلك ما دب في صفوف الانتفاضة من شعور حول تعاظم قوة النظام وظهور الجيش كرادع قوي، ويأس المنتفضين من تلقي الدعم الخارجي وخيبتهم من القيادة الدينية التي كانوا ينتظرونها. كل هذا وذاك أصبح ضمن خارطة هجوم علي حسن المجيد، وتقدير قوة المنتفضين واسلوب القضاء عليهم.
توفرت لعلي حسن المجيد القوة الضاربة من الجيش النظامي والحرس الجمهوري معاً.
فقد عادت الكثير من فرق الحرس الجمهوري ووصلت الى البصرة بعد أن سمحت لها قوات التحالف بالمرور من نقاط سيطراتها ولم تضرر هذه الفرق في حرب عاصفة الصحراء واحتفظت بطاقتها القتالية وتشكيلاتها المنظمة. وقد أعتمد علي حسن المجيد على البعض من هذه الفرق في ضرب الانتفاضة كالفرقة الالية ٥١، والفرقة المدرعة ٥٢ وقوات حمورابي (الحرس الجمهوري) وفرقة المشاة ٢٨ وفرقة المشاة ٣٧ وغيرها.
كانت منطقة الحيانية أولى اهدافه. فكما اشتعلت الانتفاضة فيها أراد أن يطفىء لهيبها ويخمد شعلتها قبل غيرها في البصرة ويكسر شوكة الانتفاضة من خلالها ويضعف بها عزيمة المنتفضين. لذا أعد لها خطة أقتحامية وهيأ قوة المشاة العسكرية الكافية المدعومة بالدبابات والاسلحة الثقيلة الأخرى.
بدأ تطويق منطقة الحيانية ومحاصرتها من كل الجهات يوم ١٩٩١/٣/١٠ وقد ساهمت فرقة المشاة ٢٨ و ٣٧ في الهجوم على المنتفضين في الحيانية اضافة الى المئات من الجيش الشعبي وقوات الطوارىء.
ظلت الحيانية تقاوم شراسة الهجوم المدعوم بقصف مدفعي من شارع بغداد على المنطقة الأهلة بالسكان حتى منتصف النهار. وبعد أن قتل أغلب المنتفضين الذين تمترسوا في شوارع الحيانية الرئيسية وخاصة شارع التربية، وشارع ٦٠ وشارع السيد والمثلث ( مدينة البكر) وفر العشرات الى داخل الحيانية، اقتحم الجيش المدينة فعاث علي حسن المجيد في الحيانية دماراً وقتلاً.
فأخذ المئات من شبابها واعدم العشرات منهم في شوارعها وبقت جثثهم تحرسها الدبابات حتى لا توخذ وتدفن، وتتفسخ في الشوارع وتأكلها الكلاب السائبة، وهذا هو الاسلوب الذي اعتمده علي حسن المجيد في كل البصرة.
شكل سقوط الحيانية المحتوم بسبب اللا تكافو بين القوتين، نكسة جديدة زادت من ضعف معنويات المنتفضين التي بدأت تضعف بعد تعاظم قوة الجيش وتخلي العشرات منهم ونزوحهم الى الضفة الشرقية لشط العرب ( التنومة) للخلاص بعد أن بانت في الأفق خسارتهم الحتمية وتخلي الشعب عن دعمهم لهم وفقدان أملهم بالقيادة الدينية.
انطلق علي حسن المجيد بعد أن ترك انهاراً من الدم في شوارع الحيانية الى المناطق المجاورة، وكانت مناطق الجمهورية والعالية وشقق الفاو والاصمعي محط أنظاره.
اندفعت تشكليلت من الفرقة ٢٨ و ٣٧ وتشكيل من دبابات الفرقة ٥٢ باتجاه تلك المناطق التي كانت مقاومتها عنيفة.
استطاع المنتفضون المتمترسون في شقق الفاو ( تقع على طريق شارع بغداد الذي يربط ساحة سعد بالقرنة) أن يوقفوا زحف الدبابات حتى هطول الليل، وقد دمروا أكثر من عشرة دبابات وقتلوا من كان فيها. وقد استثمر المنتفضون حلول الليل وبدأوا صولاتهم ضد الجيش بالقاذوفات RBG7. استخدم الجيش الهاونات في ضرب المنتفضين في الشقق وبعد أن استشهد الكثير من المنتفضين ولجأ البعض الى المناطق الأخرى. سكتت مقاومة المنطقة.
وفي الوقت الذي كانت قطعات من الفرقة ٢٨ و ٣٧ والحرس الجمهوري تخوض قتالاً مع المنتفضين في شقق الفاو، كانت قطعات أخرى تقاتل المنتفضين في منطقة الأصمعي والجمهورية والعالية. وقد قاوم أهل العالية مثل نظرائهم في الشقق ودمروا بعض الدبابات، وفي منطقة الجمهورية استبسل المنتفضون وصدوا القطعات العسكرية لساعات. كانت الخطة التي وضعها الجيش " الفيلق الثاني" بقيادة علي حسن المجيد تقضي بالبدء من ساحة سعد نحو المركز. لذا كان هناك منفذ للخلاص والتراجع وعبور شط العرب الى التنومة. وعندما بدأت المناطق تسقط الواحدة تلو الأخرى بدأ أنسحاب الكثير من المنتفضين من نقاط السيطرات التي اقاموها في البصرة.
اندفع الجيش نحو مركز البصرة عبر طريقين رئيسيين الاول يربط ساحة سعد-المستشفى الجمهوري- المحافظة، والاخر شارع ١٤ تموز ،الذي يربط ساحة سعد بمركز المحافظة أيضاً. وقد حصل الجيش على أوامر من علي حسن المجيد تفيد بتدمير البيوت التي تنطلق منها النيران، وقتل من يتحرك في الشوارع، لذا كان هجوم الجيش عبر هذين الممرين نحو البصرة لا يصدقه العقل. فقد بدأت الدبابات المتقدمة تطلق نيران مدفعيتها عشوائياً في الشارعين الرئيسيين مدمرة العمارات والبيوت التي تقع على الشارعين وتقتل من فيها، وتدمر أعمدة الكهرباء وتحيل كل شيء الى نار وتكتسح معها الالاف من الضحايا الأبرياء.
وقد واجهت الدبابات المتقدمة في شارع ١٤ تموز مقاومة عند النقطة التي اقامها الثوار في جامع الكواز إلا أن كثافة نيران الجيش واسلوبهم الوحشي في التدمير أدى الى أنسحاب المنتفضين.
وفي الشارع الثاني الذي يربط ساحة سعد بمركز المحافظة كانت قذائف الدبابات التي تمشط الشارع تكتسح البنايات والبيوت وتهدمها على ساكنيها حتى اذا ما وصلت الدبابات الزاحفة الى نقطة المقاومة التي اقامها المنتفضون في منطقة البصرة القديمة قد تخلوا عن موقعهم تحت سيل قذائف المدفع والتدمير الشامل، وتمشيط الشارع. ولم يجد الجيش مقاومة كبيرة فيها. اندفعت قطعات الجيش في الشارعين وهي تدمر بالدبابات كل شيء أمامها لتلتقي عند نقاط فندق حمدان وفندق المربد التي اقامها الجيش هناك، وبذلك يصبح مركز البصرة ( العشار) تحت سيطرة الجيش.
وفي الوقت الذي كانت فيه من الفرقة ٢٨ و ٣٧ والحرس الجمهوري تخوض قتالاً مع المنتفضين في شقق الفاو كانت قطعات أخرى تقاتل المنتفضين في منطقة الأصمعي والجمهورية والعالية. كانت الخطط التي وضعها الجيش ) الفيلق الثاني" بقيادة علي حسن المجيد تقضي بالبدء من ساحة سعد نحو المركز. لذا كان هناك منفذ للخلاص والتراجع وعبور شط العرب الى التنومة. وعندما بدأت المناطق تسقط الواحدة تلو الأخرى بدأ إنسحاب الكثير من المنتفضين من نقاط السيطرات التي أقاموها في البصرة
وقد واجهت الدبابات المتقدمة في شارع ١٤ تموز بدايته من ساحة سعد مقاومة عند النقطة التي اقاموها الثوار في جامع الكواز ألا أن كثافة نيران الجيش واسلوبهم الوحشي في التدمير أدى الى إنسحاب المنتفضين بعد أن قتل أثنان منهم. وفي الشارع الثاني الذي يربط ساحة سعد بمركز المحافظة كانت قذائف الدبابات التي تمشط الشارع تكتسح البنايات والبيوت وتهدمها على ساكينها، حتى اذا ما وصلت الدبابات الزاحفة الى نقطة المقاومة التي اقامها المنتفضون في منطقة البصرة القديمة كان أغلب المنتفضين قد تخلوا عن موقعهم تحت سيل قذائف المدافع والتدمير الشامل وتمشيط الشارع. اندفعت قطعات الجيش في الشارعين وهي تدمر بالدبابات كل شيء أمامها لتلتقي عند نقاط فندق حمدان وفندق المربد التي اقامها الجيش هناك، وبذلك يصبح مركز العشار تحت سيطرة الجيش.
وفي الوقت الذي كانت قوات الحرس الجمهوري والجيش النظامي تتوغل في مركز المحافظة، كانت هناك قوات عسكرية تزحف على شمال البصرة نحو مناطق خمس ميل، والمعقل وحي طارق والسكك، والاكاديمية البحرية.
وقد مارس الجيش والحرس الجمهوري ابشع الجرائم، وارتكب المجازر ضد هذه المناطق للسيطرة عليها، فقد كان مقاومة أهل الكزيزة وخمس ميل المعقل عنيفة واستشهدت في النساء، واستشهدت بعضهن. وقدر ارتكب الجيش في هذه المنطقة مجزرة، عندما هرب الناس تحت جسر الكزيزة، وحين تمت السيطرة على تلك المناطق، حصر الجيش والحرس الجمهوري، وأعدم العشرات من الشباب والأحداث وحتى كبار السن، بحجة الاشتراك بالانتفاضة.
اما مناطق أبي الخصيب فلم يجد الجيش صعوبة في دخولها، فهي تنفتح على طريقين رئيسيين كانا يؤديان إلى أبي الخصيب، الأول، الطريق الخارجي الذي يربط ساحة سعد،، والطريق الثاني ساحة متنزه الخورة. لذا التفت قوات من الطريق السريع، ودخلت مناطق أبي الخصيب في الوقت الذي كانت قوات أخرى تسلك الطريق الداخلي.
لم يبق أمام الجيش من المناطق مركز البصرة، إلا تلك التي تنفتح على شط العرب، والقريبة منه، و تسيطر على الجسر المقام عليه. مثل التميمية والرباط والحكيمية والطويسية ومنطقة الخندق.
والحقيقة أن هناك الكثير من الصدامات العسكرية وتبادل إطلاق النار كانت تحدث بين المنتفضين والجيوب العسكرية، في مناطق البصرة وبأسلوب الكر والفر،، هي فندق حمدان والمرربد في العشار، اللذان إقام فيهما الجيش نقاط قوة، قبل هجوم علي حسن المجيد على مناطق البصرة، وكانت هاتان النقطتان تتبادلان الصولات مع أهالي الطويسة والخندق والتميمية وغيرها.
لقد كانت مناطق التميمية آخر معاقل المنتفضين في مركز المحافظة وقد اشترك في معاركها منتفضون من الكثير من مناطق البصرة، الذين سقطت مناطقهم ولجاوا إليها، باعتبارها المنفذ الوحيد للعبور إلى الضفة الشرقية لشط العرب. ولقد كان لوجود مثل هذا المنفذ للمنتفضين وشعور هم بأن ظهورهم محمية، فيما لو حوصروا أو أرادوا العبور آثار كبيرة في شدة مقاومتهم، والتصدي للجيش بعنف. فقد استخدم المنتفضون حتى مدافع ٥٧ ضد الجيش، لذا كانت خسائره كبيرة، إلا أن كفة تفوقه كانت دائما راجحة في معارك المنتفضين، فسقطت التميمية والمناطق المحيطة بها ، وبسقوطها أصبحت البصرة "الجانب الغربي من شط العرب" تحت سيطرة الجيش ولم يبق من معاقل المنتفضين إلا الجانب الشرقي من شط العرب والمناطق الخارجية كالهارثة والقرنة والشرش والمدينة وناحية العز وغيرها. فقد بدأ زحف الجيش عليها أيضا وبدأت قوات حمورابي الحرس الجمهوري تفتك بمنطقة الهارثة وهي في طريقها للالتفاف على مناطق شط العرب. و وقد اقترفت فرق الحرس الجمهوري وقطاعات الجيش "الفرقة المدرعة الثالثة، والسادسة" المكلفة في قمع الانتفاضة في نواحي الدير والنشوة ومنطقة الشرش القرنة والهوير والمدينة، ابشع الجرائم واعدمت العشرات، من الشباب ورميت جثثهم في منطقة شط العرب.
كانت قلعة الانتفاضة الأخيرة هي في التنومة، التي اندفعت إليها قوات حمورابي الحرس الجمهوري بقيادة اللواء الركن قيس عبد الرزاق جواد الأعظمي مع قوات الجيش النظامي المساندة لها، نحو مناطق شط العرب الشرقية، عبر جسر القرنة، ومناطق النشوة والدير، وجسر خالد بن الوليد، بعد قمع الانتفاضة في الهارثة والشرش وبني منصور والنشوة وغيرها من المناطق التي كانت في طريقها نحو شط العرب.،وقد مهدت القطاعات العسكرية المتواجدة في ساحة سعد والإذاعة والتلفزيون والزبير لالتفاف قوات الحرس الجمهوري على مناطق شط العرب، بقصف مكثف بصواريخ الراجمات، و قذائف المدفعية من ساحة سعد، وشارع بغداد، ومناطق قريبة من الزبير، والإذاعة والتلفزيون ضد مناطق شط العرب، والتنومة بالذات. إن ما حدث من قصف مدفعي، ضد التنومة، وكان يسقط عليها من صواريخ الكاتيوشيا، يرتقي إلى مستوى الخيال، فقد كانت تنطلق عشرات القذائف وصواريخ الراجمات في الدقيقة الواحدة، ضد أهالي التنومة وشط العرب، دون تمييز أو رحمة أو شفقة. وفي ظل القصف البشع، والأبادة بالصواريخ هجرت أهالي التنومة ومن جاء منهم بالآلاف من مناطق البصرة المختلفة، إلى الحدود الدولية بين العراق وإيران، أو إلى مناطق المحمرة لمن دخلها من العراقيين.
بدأ هجوم قوات حمورابي على التنومة ٤ عصرا يوم ١٩٩١/٣/١٥. وكان هجومها مدعوما بالمرحويات والقصف المدفع الصاروخي. لقد قاوم المنتفضون في التنومة بضراوة وشجاعة فلم يتركوا مواقعهم حتى استشهدوا.
وفي اليوم الثاني لبدء الهجوم ١٩٩١/٣/١٦ اتجه عشرات من المقاتلين بعد اشتد عليهم من المروحيات والقاذفات نحن نهر حسن وهناك استطاع البعض العبور إلى إيران، وقتل البعض منهم، وتم القبض على الكثير، واعدم منهم العشرات في قيادة الفيلق الثالث في الدير . وبعد انهيار المقاومة في التنومة، ومقتل العشرات من المنتفضين دخل الجيش وقتل كل جرحى المنتفضين في مستشفى شط العرب، كما قتل بعض الأطباء الذين على عالجوهم ورميت جثثهم في مزرعة النخيل المقابلة للمستشفى. كما لعب بعض قادة الجيش دورا قذرا في معاملة الناس المدنيين وكان على راسهم عقيد سوادي من (أهل المدينة، البصرة) فقد كان يقتل كل من كان اسمه ضمن قوائم التموين التي كان يوزعها المنتفضين على الناس. لم تبق من قوة للانتفاضة بوجه الجيش إلا قوة عشيرة كنعان التي تشكل شريطاً عريضاً من الدعيجي وحتى الحدود الإيرانية( المحمرة). وقد ساهمت عشيرة كنعان بدور مشرف لن ينساه الشعب العراقي، والبصرة بالذات في مقاومة الجيش فقد استبسل شبابها وكبدوا الجيش خسائر فادحة، وأسقطوا عدة مروحيات. وحين اشتد ضغط الجيش على مقاتلي عشيرة كنعان، لم يجدوا صعوبة في العبور إلى الحدود الإيرانية القريبة، فلم تفصلهم عنها (المحمرة) سوى العشرات من الأمتار أو عبور النهر الصغير (نهر جاسم). وبانهيار مقاومة آل كنعان تكون الانتفاضة قد توقفت وأسدل الستار على أعظم ثورة شعبية في تاريخ العراق المعاصر ضد حكم دكتاتوري دموي بشع.
لقد مارس علي حسن المجيد في الفترة التي سبقت سقوط البصرة وما تلتها بعد سقوطها بيد قوات الجيش، ابشع الجرائم ضد أهل البصرة وشبابها الأبرياء ممن لا علاقة لهم بالانتفاضة. فقد كان الأمر الذي صدر عنه هو إعدام كل من يشك، ويمسكه الجيش في الشارع عشوائيا بدون التحقق من هويته أو غرضه. لذا وعدم العشرات مما كان يبحثون عن الماء الشحيح، والطعام لأطفالهم كما ساق المئات منهم إلى السجون ليجدوا الإعدام أو العذاب الطويل. لقد أعدم علي حسن المجيد المئات من الشباب في الأسبوع الأول من الانتفاضة ممن وقعوا بطريقة أو بأخرى قواته، وممن لا علاقة لهم بالإنتفاضة، في الشوارع الرئيسية، والساحات المهمة في البصرة وأمر عدم رفع جثثهم وتركها حتى تتعفن وتأكلها الكلاب السائبة لكي تنتشر اخبارهم، ويراه الناس، وتزرع الرعب في نفوس المنتفضين. وكانت أولى الوجبات التي تم إعدام في ساحة سعد قلب البصرة، وكان عددها كبيراً، وانتشرت جثثهم على مساحة الساحة الواسعة، وتركت أكثر من أربعة أيام، يراها الذهاب والقادم إلى ساحة سعد. كما أعدم وجبة كبيرة في بداية شارع الحيانية (كلية التربية الرياضية) المقابلة للإذاعة والتلفزيون. فلم يستطع التقدم في ذلك الوقت نحو عمق الحيانية، بل أراد من تلك الإعدامات أن تؤثر على نفسية المنتفضين فيها.
وقد ذهبت إلى المكان برفقة صديق عسكري حتى يسهل وصولي هناك، ورأيت بنفسي بشاعة المشهد. كان عددهم أكثر من ٢٠ شخصاً، وبعضهم من الأحداث، الذين لم يتجاوزوا سن الخامسة عشرة. كما أعدمت قوات الجيش والحرس الجمهوري، وفقاً لخطة علي حسن المجيد ستة أشخاص في تقاطع أبو شعير في شارع ١٤ تموز- الجزائر. وهذه النقطة كانت خاضعة للجيش فهي تنفتح على الجانب الشمالي من شارع الجزائر، الموصل إلى متنزه الخورة، الذي كان علي حسن المجيد يقيم فيه ويتخذة مقررا له، وفيه قوات عسكرية مكثفة. وقد أقام الجيش في تقاطع أبو شعير نقطة عسكرية ضمت عدة دبابات وعشرات الجنود. وقد استطعت الوصول إلى هذه النقطة عبر الشوارع الفرعية، في وقت كانت الكلاب السائبة قد جاءت على اغلب المعدومين، وهم تحت حراسة النقطة العسكرية حتى لا ترفع جثثهم. كما أعدمت القوة العسكرية التي كانت تتركز في منطقة حمدان (العشار) مجاميع كبيرة من الشباب، ووزعتهم في المناطق التي تستطيع الوصول اليها، تركت جثث البعض منهم في ساحة المحافظة القديمة وفي شارع الوطني وفي ساحة أم البروم. ولم تسلم منطقة في مركز المحافظة ولا ناحية أو قرية في أطراف البصرة دون أن يعدم علي حسن المجيد بنفسه أو عن طريق قواته مجموعة من أهلها ويتركهم في الشوارع تنكيلاً بأهلها، وبالمنتفضين. وقد تجاوزت قساوة وبشاعة علي حسن المجيد إلى أهداف أخرى غير التنكيل وزرع الرعب بين الناس من وراء تلك الإعدامات بالشوارع، فقد كان يسعى إلى التعرف على ذوي المعدومين أو القبض عليهم وإعدامهم أيضا، وخاصة إذا كانوا من الشباب. وقد وقعت الكثير من هذه الحوادث لأقارب المعدومين وإمهاتهم ممن كان يبحثون عن أبنائهم، و ويتجولون من مكان إلى آخر، ويسألون عن أماكن الإعدامات في الشوارع. و وقد روى لي أحد السجناء من منطقة الخندق عن أم من صديق له، كيف قتلها الجيش، عندما رمت نفسها على ابنها المعدوم، وهي تصرخ وتنوح في العشار (نقطة فندق حمدان) كما روى آخر قصة مشابهة في ساحة سعد، وقد قتل فيها شاب مع أمه، بعد وجداه ضمن المعدومين في ساحة سعد وحاولا أخذه. وعلى العكس من ذلك، امتنعت عوائل التصريح بمعرفتها بأبنائها خوفاً من سطوة علي حسن المجيد، وقوات الجيش التي تحرس الجثث المعدومة. وفي هذا المجال روايات حزينة ومؤلمة حول أمهات بقين ينظرن إلى ابنائهن المعدومين في الشوارع والازقة وينوحن ويلطمن الخدود، ولم يجرؤن على اخذهم والتصريح بقرابتهم لهن.
أما المشاهد الاجرامية التي ارتكبها علي حسن المجيد، وقواته من الجيش والحرس الجمهوري بالذات، في أثناء زحفها على المناطق وسقوطها بايديهم فقد كانت خارج التصور لبشاعتها. فقد أجرى في البصرة أنهاراً من الدم واعدم المئات في الشوارع، إضافة إلى المئات ممن أعدموا في شركة ناقلات النفط وقيادة الفيلق الثالث، ومن مات تحت التعذيب في الأمن والمخابرات ومراكز التحقيق الأخرى. وإذا كانت إلأعدمات التي ارتكبها علي حسن المجيد وقواته محصورة في مناطق البصرة قبل سقوطها بايديهم لأنها كانت خارجة عن سيطرة الجيش. فإنها أصبحت عامة بعد دخول الجيش المدينة. وشملت حتى النساء والأحداث. فقد كان الجيش يعدم كل من يقع بايديهم، من الشباب والأحداث بعد السيطرة على المنطقة وتفتيش بيوتها ممن وجدوا في بيته وحوزته أسلحة حتى وإن لم يستعملها في الانتفاضة. أما من ثبت اشتراكه في الانتفاضة فإن الجيش يهدم بيته على أهله. لقد تفنن الجيش والحرس الجمهوري في وسائل القسوة والإعدام ضد أهل البصرة. فقد لجأت بعد قطاعات الجيش والحرس الجمهوري إلى شد الشباب سواء ممن كان منتفضاً أو يشك في اشتراكه من أيديهم وارجلهم ومن ثم رميهم في الانهر. كما استخدم الجيش والحرس الجمهوري الناس الأطفال والنساء دروع البشرية في أثناء اقتحام المناطق العصية. وكانا يجبرون النساء والأطفال من المنطقة على يسيروا أمام الدبابات الزاحفة، او يركبون فيها. وقد استخدم الجيش هذا النوع في مناطق البصرة الخارجية، كالهوير والمدينة وناحية العز، وبني منصور وغيرها. وقد ذهبت بعد قطاعات الحرس الجمهوري في إعدام من يمسكك به من المنتفضين في نقاط المقاومة بإطلاق النار عليهم بعد إجبارهم على شرب بنزين السيارات. أما من وقع بأيدي الجيش وهم بالآلاف ونجا مؤقتا من الإعدام فقد واجه الإعدام فيما بعد أو في السجين. وقد أصبح مقر قيادة الفيلق الثالث في ناحية الدير، مكانا لتجميع المنتفضين ومقبرة للإعدامات للمناطق القريبة منه، مثل الهارثة والدير والقرنة، ومناطق شط العرب، كالنشوة والزريجي وحتى مناطق شط العرب. كما أصبحت شركة ناقلات النفط في ساحة سعد، مقرا لاعتقال المنتفضين في مناطق مركز البصرة. وقد أعدم المئات في المقرين (قيادة الفيلق الثالث ) وشركة ناقلات النفط. قبل أن يتم نقل المنتفضين الى سجن البصرة المركزي في انتظار موتهم أو رحلتهم القاسية إلى سجن الرضوانية في بغداد.
كذلك ذكر الدكتور قاسم البريسم قصة حادثة قتل لشابة اسمها زينب، أقدم عليها علي حسن المجيد وكان شاهد عيانا عليها. حيث ذكر، بعد أن ألقي القبض عليه مع المئات وضعوهم تحت حراسة مشددة في ساحة سعد "كان بيننا شابة سمراء، تجلس في صف بعيد. استفسرت زميلاً قربي عن قصتها، فلم يعرف، قبل أن نعرف قصتها وبطولاتتها في الحيانية. كانت الوحيدة بيننا في ساحة، وكانت واثقة من نفسها ومن مصيرها، فلم يبدو عليها الإرتباك والحيرة والخوف. كانت واثقة من نفسها ومن مصيرها، فلم يبدو عليها الإرتباك والحيرة والخوف. تدفن بين الحين والآخر رأسها في كفيها، وتغوص في تذكير وتامل للمصير الذين ينتظرها، و ينتظرنا جميعا. بدأت إعدادنا تتضخم، بين الحين والآخر، تأتينا جحافل معصوبة العينين ومشدودة اليدين، تقذف بها سيارات عسكرية ، وبيكبات ولاندكروزات معنا، وهم أيضا صيد الجيش في أثناء تقدمه على مناطق البصرة في ذلك الوقت. طالب بنا الانتظار، كان الوقت عصراً، عندما توقفت سيارات اللاندكروز الحديثة، خرج من أحدها علي حسن المجيد، محاطاً بعشرات الحرس المددجين بأنواع الأسلحة والمعدات، وبعض المسؤولين وقادة الجيش. اختفت الدماء من الوجوه، هاهو الموت قد هبط، كي يستل واحدا واحدا. كان علي حسن المجيد لا يعرف الا الإعدام، ولا ينطق إلا بالشتم وطعن الأعراض. وقف أمامنا ، كنا أمام محكمة لا تعرف في قراراتها إلا الموت. بيننا أحداث لا تتجاوز أعمارهم الرابعة أو الخامسة عشرة، إندفع قسم منهم مع المنتفضين، وعكسوا بطولات عظيمة في الكثير من المناطق وبعضهم بريء ولا علاقة له بالإنتفاضة، شأن الكثير منا. حاول علي حسن المجيد يستخدم حيلة لكشف المنتفضين، عندما أوهم البعض وخاصة الأحداث، بأنه سيفرج على كل من يخبره عن اسم من اشترك بالإنتفاضة من الناس الذين كان يتربعون على الأرض مكتوفي الأيدي. تبرع أحد الأحداث منطقة الحيانية (من منطقة زينب). وفعلاً نجحت خطة علي حسن المجيد مؤقتا، وعين له زينب، وذكر له أنها فجرت دبابات بقنابل يدوية. أمر علي حسن المجيد زينب بالوقوف، كانت صامدة وصامتة كجبل، ربما عرفت أنها اللحظات الأخيرة في حياتها كانت تحمل وجع البصرة، وعنوان ثورتها في عينيها، لم تنطق، ولعلها إرادت أن تموت صامتة حتى في هذه اللحظة. واقفة بشجاعة بوجه الجبن والحقد، لم تستسلم حتى بالكلمات، ولم تستعطف، ولم تنفي بطولتها، وتفجيرها الدبابات. بل ظل صمتها يفجر إلياس والخوف في قلوبنا، ويعيدنا إلى الحقيقة التي يجب أن نواجهها. قتل علي حسن المجيد لحظات الصمت التي خيمت علينا، عندما أمرها، وأطلق سراحها وقال لها بلهجته "روحي يلله لهلج"، صدق الجميع، وكذب الجميع قوله. إدارت زينب ظهرها لنا، واتجهت نحو الحيانية، ولم تقطع إلا خطوات، حتى مد المجرم يده نحو حارسه الشخصي الذي كان يحمل رشاشته الفضيةالمميزة، واستقرت بلحظة البرق رصاصتان في ظهرها. سقطت زينب البطلة ووجها نحو مدينتي الحيانية وقلبها ينبض بالثورة والحرية وبعد ثواني توجهت الرصاصات إلى الشاب الصغير ومات في الحال معها".
"بعد أن استتب الوضع في البصرة، وطالت قبضة الجيش كل المناطق، وتمزقت اشلاء المنتفضين في شوارعها، ظهرت فئران النظام من الحزبيين بعد أن اختبأت في الحفر والظلام، ولبست زي النساء طوال أيام الانتفاضة خوفا من المنتفضين، و نشطت أقلامهم ضد من نجا منهم بعد أن توفرت لهم فرص وظروف الهرب من الجيش، عندما بدأت حملة التفتيش عن السلاح في المناطق. لقد طالت أقلام البعثيين، ووكلاء الحزب، آلاف الناس فاكتظت قاعات ناقلات النفط في ساحة سعد، و معهد النفط الواقع على طريق الخارجي بصرة- الفاو بالمنتفضين والأبرياء من الناس بدوافع الاشتراك بالانتفاضة، أو مساعدة المنتفضين، حتى وصلت إلى حد الشك، والحقد، أو إظهار الولاء الكاذب للنظام، أو الانتقام من الناس بسبب العار الذي لحقهم من المنتفضين واضحك عليهم الأطفال قبل الكبار، وهم يهربون بملابس النساء، ويلوذون في الزوايا والشقوق.. لذا تحولت الساحة الكبيرة المسيجة في ناقلات النفط إلى مقبرة للإعدام اليومي، دون استجواب أو تحقيق دقيق. المحظوظ من نجا من ذلك الإعدام العشوائي قبل أن ينقل الجميع إلى سجن البصرة بتاريخ ١٩٩١/٣/٢٥, الذي عدوه للمنتفضين فقط. تضخم سجن البصرة بالمنتفضين أو ممن جيء بهم لهذا السبب، حتى تجاوز عدد السجناء فيه إلى ٦٠٠٠ شخص. يضاف إلى هذا العدد المئات من النساء، اللاتي ساهمن بنصيب في الانتفاضة، أو دخلت أسمائهمن ضمن قوائم الحزبيين ورجال الأمن بعد سيطرة الجيش على البصرة. وقد حشرن في قاطع ضيق من سجن البصرة. كانت غرفة السجن تزدحم بالسجناء حداً لا تسمح إلا بالوقوف حيث يحشر في الغرفة التي لا يزيد طولها على أربعة أمتار، وعرضها ثلاثة أمتار مائة شخص. لذا مات البعض من، بسبب هذه، وخاصة كبار السن. منحت مسؤوليات الإشراف على قضايا المنتفضين في البصرة للمخابرات والأمن بالدرجة الأولى. وكان مسؤول مخابرات المنطقة الجنوبية آنذاك العميد خليل إبراهيم ومدير أمن البصرة العميد محمود، يساعدهم محافظ البصرة عبدالله طلب.
كان قانون الإعدام العشوائي سارياً في البصرة، وقد امتد إلى نهاية الشهر الرابع. قبل أن يأتي التريث، والبدء بالتحقيق مع المنتفضين حتى لو كان شكلياً، لذا أعدمت مجاميع في تلك الفترة كانت أكبرها مجموعة ضمت إحدى وسبعين سجيناً. تكررت وجبات الإعدام، في ناقلات النفط، وفي مناطق غير معروفة، ففي كل ليلة تاتينا قائمة، وحين تخرج لا تعود، إلى أن جاء أمر التريث، وخفت حدة الإعدامات، و اقتصرت على نتائج التحقيق، والموت في التعذيب."
من جهة السلطة فقد ورد في وثيقة عن دور الحرس الجمهوري في صفحة الغدر والخيانة وعن دور الحرس الجمهوري في القاطع الجنوبي للفترة من ١٩٩١/٢/٢٧ ولغاية الساعة ٧٠٠ يوم ١٩٩١/٣/١٢.
"أولاً. بالساعة ٢١٠٠ يوم ١٩٩١/٢/٢٧ فتح مقر قيادتنا في محافظة البصرة، جامعة البصرة وبدأت قوات الحرس الجمهوري الانسحاب من أماكن تواجدها في المناطق المخصصة للدفاع عن مدينة البصرة إلى المناطق الجديدة للدفاع عن البصرة والتي تبدأ من منطقة أبو خصيب وحتى منطقة القرنة داخل وحسب الخطة التي تم اعدادها بأمر الانسحاب والتي سلمت إلى القيادات مساء يوم ١٩٩١/٢/٢٧
ثانياً. يوم ١٩٩١/٣/٢ صدرت الأوامر بحركة مقرنا وقيادة ق م م ح ج و ق ق حمورابي حرس جمهوري إلى بغداد و بالساعة ٨٠٠.
من نفس اليوم تحرك قائد قوات حرس جمهوري مع مجموعة من ضباط الركن وبقرة رئيس الأركان والقسم الآخر من هيئة الركن للاتحاق بهم بأمر لاحق.
ثالثاً. بالساعة ٩٠٠. يوم ١٩٩١/٣/٢ انطلقت أعمال الشغب في محافظة البصرة ومن ضمنها المنطقة المتواجد فيها مقرنا حيث اتخذت الإجراءات لمعالجة عناصر الشغب وصدرت الأوامر بحركة جحفل معركة من لمع / ١٧ حرس جمهوري المتواجد بالقرب من جسر القرنة لتطويق الجامعة والدفاع عنها وفي نفس الوقت اتصلت القيادة العامة للقوات المسلحة وطلبت إرسال قوة إلى مقرها للدفاع عنها وفعلا تم دفع كتيبة دبابات من لمع ١٧ حرس جمهوري وقوة من الفرقة المدرعة العاشرة التي كانت بأمرة قيادتنا بقيادة قائد الفرقة المدرعة العاشرة حسب توجيه السيد وزير الدفاع.
رابعاً. بالساعة ١٧٠٠ يوم ١٩٩١/٣/٢ تم أخبار مقرنا الباقي في جامعة البصرة من قبل القيادة العامة بضرورة عودة قائد قوات حرس جمهوري والقطعات التي كانت معه إلى البصرة لمعالجة الموقف وأعاده الأمن والنظام فيها وفي نفس اليوم وصلت كلا من ق ق ن ت حرس جمهوري وق ق عدنان حرس جمهوري مشاه آلي ١٥ حرس جمهوري بأمرة فيلق ٣ في منطقة الدير.
خامساً. مباشرة قيادتنا بإصدار الأوامر إلى قيادة قوات حرس جمهوري بتطهير مناطق خمسة ميل -الحيانية-الجمهورية وقد أوشكت على إكمال تطهير مناطق أعلاه إلا أن الأوامر صدرت بوضع قيادة قوات حمورابي الحرس الجمهوري بامرة فيلق ٢ وقد كلفت قيادة قوات المدينة المنورة حرس جمهوري لتطهير منطقة الجامعة - الكزيزة والسيطرة على منطقة جسر الكرمة.
سادساً. بقي قيادة قوات الحرس الجمهوري وقيادة قوات المدينة المنورة حرس جمهوري بمعاونة فيلق ٢ برمي تركزات نارية على العدو في الضفة الثانية من شط العرب لغاية انسحاب قيادتنا من جامعة البصرة يوم ١٩٩١/٣/٥.
سابعاً. تم استلام رسالة من الرفيق عبد الغني عبد الغفور موجهة إلى السيد قائد قوات الحرس الجمهوري كانت تتضمن طلب مساعدة بإرسال قوة إلى مقرها لغرض معالجة عناصر الشغب حيث تم تأمين طلبه."
وذكر الفريق صلاح عبود في مؤتمر للقادة العسكريين "أريد أضيف دور قسم من فرق الحرس الجمهوري في صفحة أعمال الخيانة والغدر . لأنه عملت بأمرتنا ...امرة الفيلق الثالث..كانت قيادة قوات عدنان وقيادة قوات نبو خذ نصر مسؤولة من الشافي الى القرنة..قيادة قوات عدنان بالحقيقة قامت بتطهير مدينة القرنة وحماية جسر النعيرات وحماية جسر طلحة..اضافة الى هذا كلفت بواجب تطهير مدينة طلحة والمدينة..ما تبقى من طلحة والمدينة ..شاركتها قيادة قوات نبو خذ نصر ..قيادة قوات نبو خذ نصر كلفت بواجب تطهير مدينة الهوير والقرى الكائنة على تاج الطرق شمال مدينة الهوير. والفرقتين كانت بامرتنا من يوم ..من بداية أعمال الشغب الى أن كملنا أعمال قاطع الفيلق في ٢٠ / ٣ ...قيادة قوات حمورابي أيضاً شاركت ..قامت بتطهير الهارثة ..وشكلت القوة الرئيسية في رتل الإحاطة لتطهير الضفة الشرقية لشط العرب ..وشاركت في تطهير مدينة التنومة والجباسي وبعدين أنسحبت من أمرتنا."
ذكر الفريق طعمه عباس الجبوري في محكمة الانتفاضة إن القوات المتواجدة في البصرة في تلك الفترة كانت الفيلق الثاني بقيادة إبراهيم عبد الستار التكريتي والفيلق الثالث بقيادة صلاح عبود والفيلق الرابع بقيادة إياد خليل زكي بالإضافة إلى الفيلق السابع ويتألف من قوات الحرس الجمهوري. عن من قام بتفتيش مدينة البصرة ، ذكر الفريق إبراهيم عبد الستار التكريتي، في محكمة الانتفاضة، إن الحزب والأجهزة الأمنية بالإضافة إلى الفرقة الآلية المدرعة ٥١ ، قامت بعملية التفتيش والاعتقال. وحسب قوله تولى علي حسن المجيد الإشراف على تلك العملية . وذكر أن الفرقة الآلية المدرعة بقيادة سيف الدين الراوي قد قامت بتفتيش منطقة الخمسة ميل ولكنه لم يعرف عدد الأشخاص الذين تم اعتقالهم في تلك العملية. وذكر أن قوات الحرس الجمهوري هي التي من تصدت لمن شارك في أحداث عام ١٩٩١.
أما علي حسن المجيد فقد ذكر أمام الهيئة التحقيقية أن صلاحيات الأعدام التي منحت كانت بموجب قرار مجلس قيادة الثورة الذي أشرت اليه أمام الهيئة التحقيقية في هذه الجلسة والموقع من قبل صدام حسين. حيث كان من جملة القرار المذكور هو أعطاء صلاحية الأعدام صراحة في أحداث عام ١٩٩١ وكذلك هناك قرار أخر صدر عن مجلس قيادة الثورة يعطي صلاحية لأعضاء القيادة القطرية للحزب باعدام الأشخاص دون اللجوء الى القضاء وأن يكون التنفيذ مباشرة من قبل مسؤول المنطقة ضمن أحداث ١٩٩١ ودون اجراء التحقيق وكان تنفيذ أحكام الأعدام من قبلنا تنفيذاً مباشراً دون اجراء التحقيق القضائي. أن أعداد المعتقلين الذين كانوا متواجدين في ساحة سعد تقريباً ١٠٠ معتقل وأني أجهل مصير هولاء المعتقلين الآخرين.
كان شهود قد ذكروا ، أثناء محكمة الانتفاضة، حادثة مقتل زينب على أيدي علي حسن المجيد والذي أنكر أنه قتلها لكنه أكد حقيقة ما ذكره قاسم البريسم والشهود عن الحادثة من أنه أقدم على القتل في ساحة سعد وبعد أن أشار أحد الاشخاص الى الضحية إلا أنه كان رجلا. حيث قال " أني بنفسي قتلت إيراني ... اللي سبب وكان يقود وحرق مخازن التموين لمحافظة البصرة جميعها.
فسأله القاضي شنو تفسيرك يعني شنو ايراني؟
علي حسن المجيد: إيراني الأصل.. إيراني الجنسية كان يعمل في البصرة متزوج من مدينة البصرة... لم تغادر زوجته معه واشاروا اللي الموجودين في ساحة سعد الموقوفين... هذا اللي قادنا.. لأنه أنا كنت أدور عليه حقيقة. كلتلهم منو اليعترف عليه و أطلق سراحه.. ٣٦ اللي أطلقت سراحهم وطيتهم اوراق عدم التعرض حتى من قتلوا أو حرقوا مؤسسات وقتلوا رفاق وموظفين.."
وللأسف لم يسأله القاضي كم استغرقت محاولة التحقق من جنسيته أو وثائقه وكم استغرق التحقيق معه قبل إعدامه علنياً.
وكان علي حسن المجيد قد ذكر عند جلسة التحقيق معه من قبل مكتب التحقيق الفدرالي بتأريخ ٢٠٠٤/٢/٤ قصة مخالفة إلى حد ما " كان هناك ٣٦ شخصاً محتجزون في ساحة سعد من قبل الفرقة ٥١ لارتكابهم جرائم ضد السلطة. ومن بين ال ٣٦، اعترف جميعهم بجرائمهم باستثناء اثنين. ومع ذلك، فقد شهد ال ٣٤ الآخرون ضد الاثنين. فقام المجيد بإعدامهما بإطلاق النار عليهما ببندقية ليكون عبرة للآخرين. وادعى المجيد أنه أطلق سراح ال-٣٤ الآخرين".
تم تشكيل لجنة أمنية للتحقيق مع من ألقي القبض عليه، من الذين لم يعدموا على الفور، وكانت برئاسة عبد الغني عبد الغفور أمين سر مكتب تنظيم الجنوب لحزب البعث وأعضاء من المخابرات والشرطة والأمن والاستخبارات العسكرية وممثل من الوحدات العسكرية في البصرة بالإضافة إلى محافظ البصرة.
وقد ورد في حديث لعبد الغني عبد الغفور مع الرئيس صدام حسين عن الإعدامات التي حصلت للمنتفضين في البصرة وعرض في محكمة الانتفاضة "سيدي الإعدامات اللي صارت على العناصر المخربة اتبعنا أسلوبين بالتحقيق، الأعدام الردعي المباشر حتى يصير ردع. وبيهم من المخابرات والامن ومن الرفاق العسكريين فعدمنا أعداد جيدة، سيدي رادعة وياها الاعترافات مفيدة سيدي من يعترف على واحد نتوصل الى رؤوس".
وعن المشاركين في الانتفاضة في البصرة ورد في دراسة بعنوان صفحة الغدر والخيانة أعدها فريق عمل من جامعة البصرة بالاشتراك مع مدير مخابرات المنطقة الجنوبية ورفعت إلى سكرتير مجلس الأمن القومي بتاريخ ١٩٩١/١٠/١٥
" ب- طبيعة المشاركين بحوادث الشغب في البصرة، حيث كان لمعظم عشائر البصرة حضور في تلك الأحداث ومحاولة اتصال بعض رسائل العشائر ووجهاء البصرة بالمخابرات الإيرانية وعملائها وكانوا من سكنة البصرة ونسبة لا بأس بها من أصول المشتركين من ميسان وذي قار وأغلب المشاركين من سكنة المناطق الشعبية والنازحين من الريف الى المدينة وكانت نسبة ذوي التحصيل الأبتدائي أو دونه ٦٠٪ , وكان معظمهم ضعيفي الولاء الوطني ولم يكن للدخل تاثير على المشاركين ومعظمهم له خبرة في استخدام السلاح، وشاركت نسبة ليست قليلة من المراهقين والأحداث، اما النسبة الكبيرة فقد تركزت بين عمر الشباب من ١٨ إلى ٣٥ سنة.
ج- دوافع المشاركين ؛ قسمت الدراسة المشاركين في أعمال الشغب إلى قسمين العملاء ويمثلون نسبة ٢٠-٣٠٪ ودورهم في تفجير حوادث الشغب وقيادة الغوغاء والتهيئة لتصفية الحزبيين واقتحام المقرات الحزبية ودوائر الدولة فمنهم من تسلل من إيران ومنهم عناصر حزب الدعوة العميل في الداخل واتجاهات أخرى، والمشاركون الآخرون ممن سحبهم عدوى السلوك الجماعي والفضول ومن جرهم الحقد على النظام والحزب ومن استهوتهم عملية النهب والسلب والمنحروفون جنسياً.
د . مسببات حوادث الشغب والغوغاء، نوعين، مسببات موضوعية متمثلة بضخامة الهجمة الأمريكية الأطلسية الصهيونية على العراق ودور إيران كجهة منفذة وممولة للصفحة الثانية من العدوان، ومسببات ذاتية تشمل الإخفاقات التي تتحمل مسؤوليتها أجهزة الحزب والدولة التي ترتبط بحياة المواطنين والخدمات المقدمة لهم والقدرة على امتصاص الانكسار النفسي للجندي أثناء الانسحاب من الكويت وإمكانية الحزب في معالجة بعض مظاهر البيروقراطية.