والمهزلة الأكبر أن متحف الصمود والتحدي الذي أمر الطاغية بإنشائه تخليداً لقتلى حزب البعث في الروضة العباسية ضم زاوية لمذبحة المستشفى الحسيني...رؤوس مقطوعة...اشلاء أطفال متناثرة في الأروقة، جثث ممزقة بالرصاص ومحترقة في الأجنحة...نساء مفتوحة البطون...أطباء وممرضون بملابسهم الطبية مثل بجثثهم أبشع تمثيل...
ثم ذكرالمؤلف أنه شاهد كربلاء وهي تقصف بصواريخ أرض- أرض. فقد شعر أن الأرض زلزلت تحتهم.. فأعتقدوا " في البداية، أن هذا الأنفجار الكبير وقع قربهم. لكنهم انجذبوا الى دخان يتصاعد من وسط المدينة. كان كثيفاً أسوداً غطاها كلها. لم يكن عادياً.. وصاحبنا ألف مشاهدة انهيار العمارات والابنية نتيجة القصف، وهو يشاهد الآن غبار ٥٠ أو ٧٠ عمارة تسقط مرة واحدة".
قرر المؤلف العودة الى كربلاء بعد بدا له أن معركة صواريخ أرض أرض انتهت. وفي طريق عودته الى داره في كربلاء ذكر انه شاهد "أول جثة، وهو ذاهب الى منزله مع أخيه في الحي الحسيني، كانت ملقاة على وجهها. ظهرت له جثة أخرى. تلتها أخرى واخرى... أرض كربلاء مزروعة بالجثث، حدث صاحبنا نفسه قائلاً:
- هذا يوم الجثث!
كرنفال من شتى الأعمال، واجساد تفننت صواريخ الطاغية في تشويهها، جثث مستلقية على الظهور، واخرى منكبة على الوجوه، ثالثة مستريحة على الأجناب. رجالاً ونساء وأطفالاً وشيوخاً، الحصاد الأكبر في الأيام الكبرى، بحور من الجثث، في الشوارع والازقة والطرقات، فوق الكثبان الرملية الصغيرة، أمام المنازل، بجانب الجدران، تحت مولدات الكهرباء، في البرك الآسنة، فوق أكوام القمامة، داخل حاويات القمامة!
والسيارات المحترقة...تحت...في...على...بجانب...فوق...مع...جثث، جثث، جثث...
هنا جثة وهناك جثة، تلك جثة، هذه جثة، عندنا جثة، امامنا جثة، عندكم جثة، امامكم جثة، عندهم جثة، فقدنا جثة، فقدت جثة فقدوا جثة!
الكلاب السائبة تأكل الجثث بهدوء ورضى. الكلاب تنهش...والاحياء يتفرجون صاغرين!
تضرب حجراً على كلب. يتحول عن الجثة ويزمجر غضباً نحوك. تتركه لوجبته وتمضي!
العائلات الكربلائية العائدة الى منازلها، واجهت مشكلة...وجدت أمام كل منزل جثة أو جثتين أو ربما أربع أو سبع، منع الجيش دفن الجثث غير المعروفة، وخطرت لهذه العوائل فكرة دفنها في أماكن رقوده مخالفة بذلك أوامر الجيش... وهي ما اسماها الكربلائيون بعد ذلك أمانة لدى الأرض مؤقتا تأخذ العائلة التي دفنت الجثة هوية صاحبها أن وجدت أو اوصافها واوصاف ملابسها ثم تدفنها، أكثر هذه الجثث لم يظهر أقاربها، تكفل الأهالي باستخراجها ودفنها في مقابر جماعية، كان أهالي المفقودين يفتشون بين المناطق عن ذويهم، يستخرجون جثة ويدفنون أخرى...
والذي يريد دفن جثة لأحد أقاربه في المقبرة الحديثة عليه أن يقوم بسلسلة اجراءات معقدة قبل دفنها...
يجب أن يثبت أولاً صاحب الجثة ليس غوغائياً، وأنه ليس خائناً عبر الحدود، تشكلت لجنة خاصة في كربلاء برئاسة الحاكم العسكري الذي عينه الطاغية.
وكان حاكم كربلاء العسكري هو محافظها السابق غازي محمد علي الديراوي. ويستغرق استخراج تصريح دفن جثة ثلاثة أو أربعة أيام، أخذ الناس بالدفن من دون تصريح تنبهت السلطة لذلك، ارسلت ازلامها الى المقبرة لتنفيذ القانون، وخاف الكربلائي أصلاً من السير في الشارع بجثة من دون تصريح، لأن القانون الواجب التطبيق آنذاك اختفاء الجثة وحاملها!
بعد أن وصل صاحبنا واخيه الأصغر الى منزلهما، لحق بهم أخيه الأكبر وصديقه. واثناء وجودهم في المنزل سمع الصراخ في الشارع. أبواب تضرب رفساً بالأحذية العسكرية، اصوات طلقات نارية قريبة التفت صاحبنا صوب الباب الذي أخذ الجنود يرفسونه بأحذيتهم. أسرع صاحبنا وفتح الباب. وجد امامه كوكبة من جنود الحرس الجمهوري يتجاوز عددهم ٣٠ عسكري شاهرين اسلحتهم بوجهه، ٥ منهم تسلقوا سيارة جاره. صرخ في وجهه مقدم في الحرس الجمهوري:
-اخرج يا كلب!
كان المقدم يمسك مسدساً.. دخل ثلة من الجنود وراح أفرادها يحطمون الزجاج والصحون والثلاجة. انهالوا على جماعته بالضرب بعقاب رشاشتهم. أخرجوهم من المنزل. أوقفوهم أمام الحائط إلى جانب رجال وشباب. كانوا الشبان والرجال يخرجون من بيوتهم، مرتجفين . قاد الضباط والجنود شباب ورجال شارع صاحبنا والشوارع المجاورة. بلغ عددهم ٤٠ فرداً. أوقفوهم أمام جدار مدرسة ابتدائية. فتشوا جيوبهم أخذوا هوياتهم. جاءوا بشاب مدمى كان يضربونه بعقاب رشاشاتهم. صار مجموعة العصاة ٨٠ رجلاً وشاباً. امروهم بالسير تحت حراسة مشددة. وفي طريقهم، كانت الجنود ياخذون الشبان والصبيان الذين خرجوا الشوارع مطمئنين إن الأوضاع عادت إلى طبيعتها. وصاحبنا لا ينسى منظر صبي لا يتجاوز عمره ١٥ عاما. جاء يتمختر. يسحب نعاله سحباً مثيراً حوله الغبار. ولما وصل إلى الضباط الجنود سلم عليهم فصاح به المقدم؛
وين رايح؟
أجابه الصبي بلا اكتراث:
- ذاهب إلى بيتنا ذاك..
قال له الضابط:
-صف مع الجماعة!
قال الصبي ضاحكا
-صار سيدي..
عبروا شارعاً. نظر صاحبنا إلى جانبيه، كان معرضا لجثث رتبت بعناية على الرصيفين. ثمة سيارات محترقة على الجانبين، شاحنة كبيرة تحمل الفحم تقف بعيداً عن الجثث. لمح صاحبنا من بعيد ملعب الإدارة المحلية الرياضي. خطوات تسرع بهم نحو حتوفهم. مستقرهم هناك حيث ينتظرهم ملاك الموت، أمتار قليلة بينهما وبين الجدار الطويل للملعب. مجموعة من ضباط الحرس الجمهوري الكبار ذو الرتب العالية تقف متفرجة عليهم. رجل قصير يقف أمامهم يعتبر غترة حمراء، شاهده صاحبنا لكنه لم يصدق ما رآه، صديقه النقيب لكز بساعده يلفت نظره الى الواقف. همس في إذنه
-حسين كامل!
التفت صاحبنا الى الرجل الواقف.. المتسلح برشاشة ومسدس وحربة ليتأكد من مما شاهده وليثبت همس صديقه. كان حسين كامل بلحمه وشحمه. وصورته التلفازية المعهودة. تجاوز الموكب مجموعة الضباط الكبار وحسين كامل. التفت صاحبنا إليهم. رآهم قد عادوا مرة أخرى يجلسون على الرصيف انتظاراً للخطوه القادمة. ، صفّت القرابين امام الجدار الطويل. اخذ العسكر يفتشونه مرة اخرى ، كان التفتيش دقيقاً وشاملاً يرافقه الضرب والشتائم.
شاب يحمل حقيبة. يقف بينه وبين صاحبنا ستة شباب، فتحوا حقيبته ثلاث مرات منذ القبض عليه. أدوات طبية في حقيبته. حملها من منزله خوف السرقة. في كل مرة يفتحوها لهم، يذكرهم بأنه طالب في السنة الأخيرة من كلية طب جامعة البصرة، يقف صاحبنا أمام الجدار بين اخويه الاصغر والاكبر . صديقه النقيب على يمينه بجانب شقيقه.
كانت الاشاعات منتشرة بين الكربلائيين بعد دخول الحرس الجمهوري أطراف المدينة ان حسين كامل يقوم باعدام الثوار بمسدسه! لكن الاشاعات لم تؤكد اعدامه للمدنيين .
حددت الثوار وحدهم تخصيصاً والواقفون هنا أمام جدار الملعب الرياضي قسمان : متهم وبريء ، ثائر وغير ثائر ، والثوار صنفان : ثائر فرضت عليه الاحداث وركب الموجة من دون ان يقترف أثماً ، وثائر قتل ونهب واعتدى ، والثوار القتلة صنفان: عسكري يجب ان يحال الى المحاكم العسكرية ومدني يجب ان تهتم المحاكم المدنية بقضيته .
انهمك افراد الحرس الجمهوري بشد العصائب الخضراء حول عيون الواقفين ، وصاحبنا يفكر: لماذا اللون الاخضر قبل الموت ؟ اجل هذا شعار ثورتهم. فليكن اذن شعار... موتهم .
يصير هؤلاء الواقفون أمام حسين كامل أصحاب تهمة ليتساوى عنده المذنب والبريء.
أنها جندي شد عيني أخي صاحبنا الأكبر. جاء دور صاحبنا. اوثقه بشدة... احس لحظتها أن الجندي يريد شطره نصفين.
سمع صاحبنا بعد قليل طقطقات خفيفة، طقطقة بعد طقطقة!
اخذت أصواتها تقترب منه ، لحظات معدودة بين الواحدة والأخرى، طق... طق... صم.... ثم تتحول الى نغمات اكثر حدة .... انها طلقات مسدس!
اقتربت منه كثيرا... وراح يسمعها في رأسه... وقف شخص امام صاحبنا ... شم رائحة الصابون المنبعثة منه ، لابد ان حماماً ساخناً انعشه لتوه....... كانت له دائما فسحة من الوقت بين طقطقاته واستراحاته! صاحبنا وهذه القرابين المتسخة تستطيع أن تميز رائحة أجسادها عن رائحة الصابون الأجنبية العبقة...
تجاوز الشخص صاحبنا.... مضى يطقطق بعد أن تجاوز شقيق صاحبنا الأصغر انتهت الطقطقات. سمع صاحبنا وقع أقدام مرت أمامه إلى بداية الصف.... ثم أصوات محركات شاحنات اقتربت منهم... وأصوات جنود يتصارخون. قبضت يد قوية على ذراع صاحبنا. قادته إلى أحد الشاحنات وأمرته بالصعود. صعد جندي يجمع الشرائط الخضراء منهم.
فتح صاحبنا عينيه.. شاهد أخاه الأصغر يجلس في مقدمة الشاحنة... وعلى قريبة يجلس صديقه النقيب، كان هناك قماش سميك يغطي الشاحنة. اتاح لصاحبنا مشاهدة جدار الملعب والاطلاع على مخلفات الطقطقات كان طالب الطب منكباً على حقيبته ودمه الطازج لوث الشريط الأخضر وسار فوق سطح الحقيبة، ثم سال على الأرض.
تحركت الشاحنة. شاهد صاحبنا بقية أصحاب الشرائط الخضراء الممددين عبر الفراغ الضيق، بين جثة وآخرى مسافة قصيرة، كان الشخص صاحب المسدس يعد الواقفين على الجدار بين طلقة وأخرى. ربما أربعة أو خمسة. فهو قد تجاوز صاحبنا بعد أن قتل أخاه الأكبر... ثم تجاوز أخاه الأصغر والنقيب صديقه وشاباً من الجيران يجاور النقيب، ثم قتل شاباً آخر يقف بجانبه فهي يمنح الحياة لأربعة ويسلبها من الخامس في كل مرة. انطلقت الشاحنات تقطع الصحراء و ركابها لا يعرفون وجهتها. السائقون وحدهم يعلمون أنها متوجه إلى معمل الثورستون لصناعة الأسمنت، مقر فيلق الحرس الجمهوري الذي ذبح كربلاء. نزل ركاب الشاحنات لينضموا إلى آخرين. وصار المجموع أكثر من ٥٠٠ شاب ورجل جمعوا من مناطق سيف سعد والحي الحسيني والإسكان والبناء الجاهز والملحق وحي الأسرة، كانت وجبتان قد اختفتا قبلهم جمعتا من أحيان النصر والعسكري والبعث والعامل والحر. جلسوا في العراق على أرض رملية يحيطهم الجيش وآلياته. وصلت عشرات الشاحنات العسكرية عند منتصف الليل تقريباً. أمروهم أن يركبوا وتحركت الشاحنات تطوي شوارعاً لا يعرفونها متجهة إلى سجن الرضوانية".
وعن الروضتين الحسينية والعباسية ذكر المؤلف انه "عندما تساقطت القنابل على المدينة، من مدافع الجيش وطائراته، نزح الكربلائيون إلى البساتين والصحارى. بعضهم رأى إن خير الحامين واعظم الحافظين، هما أبو عبدالله الحسين بن علي وأبو الفضل العباس بن علي، فتوجهوا يلوذون بهما مع أطفالهم ونسائهم وعجزتهم. استبعدوا أن يجرؤ الحرس الجمهوري على قصف الروضتين. لا يعرف أحد عدد العائلات التي التجأت إلى الروضتين. القادر على العد، في تلك الظروف، هو الذي أخرج الجثث من الروضتين بعد احتلالهما، وحده الذي وضع سجلاً بين يديه وعدهم قبل دفنهم. فعل ذلك من باب الإحصاء لا غير. وتظل الأرقام سرية.
لكن الكربلائيين عرفوا معلومات مؤكدة، من بعض الحزبيين، أن كل روضة أخرجوا منها ٣٠٠٠ جثة لنساء وأطفال وشيوخ. موقع الروضتين هدف سهل و مكشوف لطائرات الحرس الجمهوري، الثوار يعلمون ذلك، فاوضوا حسين كامل لإخراج المدنيين من الروضتين. لكنه رفض... طلب منهم الاستسلام بلا قيد ولا شرط، كانت العائلات التي تفر من أبواب الروضتين تحصدها الدبابات، واستمر حصار الجيش للروضتين أياماً القنابل تتساقط فوق رؤوس العائلات من الأعلى... من الطائرات السمتية! اخترقت الغرف والقاعات والأواوين... قنابل أخرى اخترقت القبتين الذهبيتين وانفجرت داخل الضريحين الشريفين، ومحي ضريحا إبراهيم المجاب وحبيب بن مظاهر الاسدي، وانفجرت القذائف قرب ضريح الإمام الحسين بن علي وحطمت شباكه، ثم اقتحمت وحدات الحرس الجمهوري الضريحين بالدبابات... واحترقت أكثر الأبواب التاريخية المذهبة وقبضوا على شبان وشابات أعدموا جميعاً.
ودخل الفاتح الأوحد حسين كامل الروضة الحسينية بيده مسدس، قفز من فوق آلاف الجثث... وصل إلى ضريح الإمام الحسين، وفرغ مسدسه باتجاه الجسد الطاهر، حيث قال مقولته المشهورة التي يحفظها كل العراقيين.
أنا حسين... وانت حسين... منو اللي ما يسوى فلسين!
وابتداءا من ١٩٩١/٣/١٦ تاريخ استكمال احتلال المدينة وحتى ١٩٩١/٣/٢١ تاريخ ارجاعها ، استبيحت المدينة اسبوعا ، ووضعت تحت الاحكام العرفية، وأنيطت ادارتها بالاجهزة الامنية التي اعطيت لها صلاحيات واسعة بالقاء القبض والتعذيب والاعدام والتفتيش والترحيل القسري والنهب والسلب والتهديم ، استحوذوا على ممتلكات الروضتين ، بيعت ثريات الكرستال والسجاد الفاخر والمعدات الكهربائية في تكريت و الفلوجة والرمادي والموصل .
المحافظ السابق لكربلاء غازي محمد علي الديراوي الذي توقع الجميع اعدامه من قبل السلطات بعد فراره عقب الثورة ،عاد الى كربلاء بصفته الحاكم العسكري لها ، واول ما قام به هو استدعاء جميع موظفي الدولة في المحافظة الى فندق كربلاء السياحي ، وقبل ان يعيدهم الى وظائفهم القى فيهم خطبة عصماء ارتعدت لها فرائصهم ، قال انه سيعاقب البريء بالمذنب والظاعن بالمقيم والقاعد بالقائم .
تعاون الديراوي مع الاجهزة الخاصة تعاونا شرسا ، سيق الآلاف الى الفندق وعذبوا واعدموا ودفنوا بلا علم ذويهم ، واصبح فندق كربلاء السياحي المعلم الحضاري الذي استقبل الملوك ورؤساء الجمهوريات والامراء وكبار الزوار ، اصبح رمزا للتعذيب .لم تنته مأساة كربلاء عند هذا الحد ، فقد بدأت عمليات الهدم في المدينة ، هدم العمارات والاسواق والمنازل ومؤسسات عديدة ، كانت الاوامر تقضي بـ ( كل جدار ، كل باب ، كل سطح ، كل شارع ، كل شرفه انطلقت منها رصاصة نحونا ، امسحوها بالارض) .دخلت آليات وحفارات يملكها (آل خربيط) الى المدينة ، وهؤلاء عائلة ثرية جدا منهم مقاولون وتجار واصحاب عقارات واسطول نقل ضخم ، اعطيت لهم مقاولة غريبة من نوعها ، تهديم جوامع كربلاء وحسينياتها وقطع بساتينها . كان الحرس الجمهوري يهدم وسط المدينة وآل خريبط كانوا يهدمون الجوامع والحسينيات ، ثم سأل صدام رجاله : ما اجمل معالم كربلاء ؟ أجابوه : بساتينها ، قال لهم : اذن اقطعوها .
كان الكربلائيون يشعرون بالفخر وهم يتجولون في اسواق خضار العاصمة بغداد ، يسمعون الباعة يروجون لفواكههم ويهتفون : تفاح كربلاء ، بطيخ كربلاء ، برتقال كربلاء ، مشمش كربلاء . جاء الرئيس عبد الكريم قاسم وسمع هتافاتهم ، فقرر انشاء اكبر مصنع للفواكه المعلبة في الشرق الاوسط بمساعدة حلفائه الروس .
يروي المؤلف حكاية احد اثرياء المدينة العصاميين ويدعى محمد علي سعدون الهر ، وكيف استطاع ان يصبح من اصحاب الاملاك وكانت بساتينه هي كل حياته بها بنى دارا فخمه واسس حقل دواجن ومنحلا ، وحفر فيها آبارا وجداول ، وعندما وصلت عملية قطع البساتين الى جيرانه جن جنونه ، بعث بالعديد من الرسائل الى ديوان الرئاسة ومجلس الوزراء ووزارة الزراعة والى سعدون حمادي ابن مدينة كربلاء ، مذكرا بما قدمه للدولة من تبرعات بمئات الآلاف من الدنانير للقادسية وانه لم يشترك في اعمال الغوغاء والخيانه ، مناشدا اياهم بان لا يقطعوا بستانه .
وعندما دخلت معدات آل خربيط الى بستانه وقف عند احدى نخلات بستانه صائحا فيهم : انا و النخلة . وصدرت الاوامر اليهم بقطعه مع بستانه ، وانشطر محمد علي الهر الى نصفين ، نصف تدحرج مع النخلة ونصفه الآخر وقع في ساقية قريبة ليكون عبرة لبقية اصحاب البساتين .
أربعة وثلاثون من كبار السن قضوا بالسكتة القلبية او بجلطات المخ ، بعد قطع بساتينهم ، اخذ بعضهم يغرق بستانه بالماء معطلا عمل آلات القطع لكن ذلك لم يمنع التقطيع بهمة عاليه مئات البساتين بل الآلاف تمت ازالتها .
استلم سعدون حمادي رئاسة الوزراء فذهب الكربلائيون يتوسلون اليه ، اقترح عليهم تشكيل وفد من وجهاء المدينة لمقابلة صدام حسين ، رفض الاخير طلبهم مقابلته لثلاث مرات وفي المرة الرابعه جاءت الموافقة ، دخلوا عليه وكاميرات التلفزيون تصور اللقاء ، اعتذروا عما بدر من ابنائهم ، وحصلوا منه على وعد بايقاف التهديم وقطع البساتين ، ولاحقا اصدر امرا بتعويض اصحاب البساتين المقطوعة بـ (١٠٠) دينار عن كل نخلة و (٥٠) دينارا عن كل شجرة .
وصلت تعليمات جديدة الى آل خربيط بالابقاء على الضريحين فقط وتهديم الابنية المقدسة الاخرى وتحويلها الى دورات مياه . وتحت ضغط من علماء الهند والباكستان الشيعه تقرر ترميم العتبات المقدسة وصيانتها بسرعة فائقة وبصورة رديئة .يختتم المؤلف عباس ناظم كتابه بمقولة لعجائز العراق اللاتي كن يرددن ان هذا الزمان – زمان الطاغية- هو الزمان الذي سيستمر الى المرحلة التي اذا رميت ( برتقالة ) من الموصل ستظل تتدحرج بلا عوائق حتى تصل جنوبا الى البصرة، لا زرع ولا ضرع ولا حرث ولا نسل ولا بناء ولا حضارة".
قام أخوين بتصوير فيلم للأيام الأخيرة لانتفاضة محافظة كربلاء وربما هو الفلم الوحيد عن أحداث الانتفاضة في المحافظات الجنوبية صوره المنتفضون ومن ثم هرب الفلم للخارج. في هذا الفيلم نرى مجاميع من النساء والأطفال والرجال في حضرتي العباس والحسين وهم في حالة من الخوف الهستيري يطلبون العون من الشيعة والسنة والعون من ايران لنجدتهم. وفي مقطع آخر من الفلم نرى جرحى الانتفاضة في مشفى داخل الصحن العباسي. في أحدى مقاطع الفلم إحدى النساء وهي ممرضة أو طبيبة تقول "ميدرون ميدرون شدا يجرى علينا ميدرون ميدرون شدا يجرى علينا ..ميسمعونه...حضرة العباس أنضربت..حضرة الحسين انضربت..كله..كله انضرب... الناس.. الأهالي.. شامي..عامي يضربونه..كيمياوي أنضربنه..كل الأسلحة.. ديبيدوه الشعب.. ديبيدوه الشعب..ابادة...ابادة... منلحك..يجبون البني آدم مفلش يمنه".
علق صحفي أسترالي شاهد الفلم أن الغالبية من مجاميع النساء والرجال في الفلم من المتواجدين في الحضرتين ، وكما ذكر عباس ناظم، تم اعدامهم وذكر أن أحد الأخوين من مصوري الفلم قد قتل.
وكما ذكرنا سابقاً، فأن أهالي كربلاء ذكروا، كما في الفلم، أنهم قصفوا بالسلاح الكيمياوي وكذلك ذكر وفيق السامرائي في كتابه " حطام البوابة الشرقية" " أنه بالفعل تم أطلاق عوامل كيمياوية مخففة على مركز المدينة".
وكما عرضنا سابقاً ، كانت أحدى مهمات الأمريكان، بعد سقوط النظام، البحث عن الاسلحة الكيمياوية لتبرير الحرب فاصدروا تقرير عن نتائج بحثهم. وفي صفحة من صفحات التقرير المكون من ثلاثة اجزاء، وردت تفاصيل عن استخدام السلاح الكيمياوي في الانتفاضة وبالتحديد استخدامه في كربلاء حيث ورد في التقرير " في صباح يوم ٧ /٣ /١٩٩١ طلب مسؤول عراقي لم يتسنى للتقرير معرفته استخدام السوائل ضد المتمردين في داخل وحوالي مدينة النجف. كانت قوى النظام تنوي استخدامه كجزء من هجوم كبير لهزيمة القوى المتخندقة في تلك المنطقة .
أمر حسين كامل، مدير التصنيع العسكري في حينها، من مسؤولي برنامج الأسلحة الكيمياوية تجهيز السلاح الكيمياوي لاستخدامه ضد التمرد. كان أمره في البدء استخدام سلاح VX. ولما تم ابلاغه عدم توفر سلاح VX، أمر باستخدام غاز الخردل. ولكن لخاصية غاز الخدرل من أستمرارية اكتشافه تم استبعاد أستعماله واختير السارين محله.
في حوالي يوم ٧ /٣ /١٩٩١ ، تم تحضير قنابل R400 الجوية في قاعدة تموز للاستخدام. قام تقنين من منشاة المثنى العامة بخلط مكونين من غاز الأعصاب المزدوج داخل قنابل R400. تم تحميل هذه القنابل بعبوة متفجرة وتم تجميع الأسلحة على مدرج الطائرات.
تم تحميل طائرات هليكوبتر أتت من قواعد قريبة لقاعدة تموز بقنابل R-400 المحملة بالسارين وذخائر تقليدية أخرى. تم تنفيذ العديد من الهجمات ضد المتمردين الشيعة في كربلاء والمناطق المحيطة. يقدر مسؤول متقدم في برنامج الأسلحة الكيميائية أنه تم استخدام ١٠-٢٠ قنبلة R-400. تشير تقارير أخرى الى أنه ربما تم القاء
ما يصل الى ٣٢ قنبلة R-400.
بعد الهجمات الأولية بواسطة طائرات الهليكوبتر، تلقى المسؤول العام عن برنامج الأسلحة الكيميائية المشرف على العملية مكالمة غاضبة من من مكتب حسين كامل. قال أن الهجمات لم تكن ناجحة وأنه يلزم اتخاذ تدابير اضافية.
كانت قنابل R-400 مصممة لكي تلقى بسرعة من ارتفاع عالي ومن المرجح أنها لم تتفاعل عندما القيت من طائرة هليكوبتر تتحرك ببطء.
كبديل لقنابل R-400, بدأت مؤسسة المثنى في تعبئة الغاز المسيل للدموع CS في قنابل جوية كبيرة. خلال الأسبوعين التاليين، غادرت طائرات الهليكوبتر قاعدة تموز محملة بقنابل مليئة بالغاز المسيل للدموع. قدر أحد المشاركين أنه تم استخدام أكثر من ٢٠٠ قنبلة جوية مملوءة بالغاز المسيل للدموع على أهداف المتمردين في وحول كربلاء والنجف.
من جهة السلطة فقد ورد في تحليل لقيادة قوات النداء الحرس الجمهوري عن معركة أعمال الشغب في القاطعين الشمالي والجنوبي عن قاطع كربلاء :